أخلاقيات التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي
د. محمد منصور ربيع المدخلي()
ملخص البحث:
مفهوم التجارة يدل على التقليب للأموال وإدارتها لغرض الأرباح المشروعة، والتجارة الإلكترونية -بمفهومها المعاصر- تدخل في ذلك دخولاً أولياً، مع إضافة تقنيات واتصالات ورسائل تؤدي إلى النتيجة الإيجابية، والإسلام قد سبق الأنظمة الوضعية في اهتمامه بالتجارة وفرّع لها أحكاماً شرعية، حتى أضحت وسيلة من وسائل الكسب المباح في الشرع الحنيف، ذلك أن التجارة الإلكترونية تعتمد على أسس ومصالح وقواعد إسلامية نظمها الإسلام على منهج رشيد، خاصة وأن العقود مبنية على الرضائية ومنها: عقود التجارات الإلكترونية في كل زمان ومكان ومجتمع ووسيلة، ولقد أباح الإسلام التجارة الإلكترونية في بلاد غير المسلمين ضمن علاقة المسلمين مع غيرهم بشروطها، كما أن الالتزام بأخلاقيات التاجر المسلم وضوابط المعاملات التجارية سمة مهمة في عرف التجارة الإلكترونية من الصدق والأمانة وعدم الغش والتحلي بالأخلاق الفاضلة: مثل عدم الربا أو الاحتكار أو القمار وغيرها، ولقد اقتضت حاجة الناس إلى هذا الموضوع وإبرازه بصورة فقهية حتى تتضح معاملاتهم، في الخدمات الإلكترونية المقدمة وإباحتها بضوابطها مثل البطاقات والاعتمادات المستندية ومقدمي الخدمة وغيرها.
وقد ظهرت آثار هذا البحث في تقديم خدمات الشبكة الإلكترونية وأخذ العمولة المشروعة (الأجرة) وأن البيع التجاري الإلكتروني جائز بشروطه بناء على العرف ووفق ما قعده الفقهاء رحمهم الله وإقرارات المجامع الفقهية المعاصرة، وكذلك جواز الإعلان التجاري الإلكتروني بشروطه، وأن التكييف الفقهي لبطاقات الائتمان قد أجازها في التعامل الإلكتروني في التجارة الإلكترونية على أنها وساطة تجارية بأجر أو وكالة أو كفالة بأجر، سواء في التقعيد الذي ظهر عند الفقهاء أو ما صدر من فتاوى وآراء لبعض المجامع والهيئات الفقهية المعاصرة، وأن الشريعة الإسلامية قد حمت هذا النوع من المعاملات (التجارة الإلكترونية) من حقوق الملكية الفكرية، وحماية المستهلك وفق منهج إسلامي رصين وسنّت العقوبات الرادعة لمن يتعدى عليها وهو منهج سار عليه علماء النظم الوضعية مقتفين أثر الشريعة الإسلامية في حين أن الإلتزام بالأخلاق الإسلامية مطلب مهم في التجارة الإلكترونية.
المقدمة:
الحمد لله الرزّاق الوهّاب، أحمده سبحانه وتعالى، وأصلي وأسلم على أشرف خلقه، سيدنا محمد الذي أمر بالكسب المشروع، والتجارة الرابحة، وعلى صحبه وبعد: فإن اندفاع الإنسان لإشباع حاجاته أمر لا بد منه، وهو من الأمور التي فطر عليها، وموضوع (أخلاقيات التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي) من أجل الموضوعات وأهمّها، فهو وسيلة للكسب في الإسلام، ويحتاج إلى بيان وتقعيد وتأصيل في ضوء الفقه الإسلامي، ولما له من أهمية فقد وقع الاختيار له، لحاجة الناس إليه، ولما تشهده التجارة المعاصرة من تطور سريع، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بأخلاق وضوابط، لتهذيب هذه الرغبة الجامحة لدى الإنسان في التجارة، فلو ترك أمر هذه الرغبات والسلوك بدون ضوابط لعمّت الفوضى وساد الظلم في حياة الناس وانفرد الأقوياء بكل شيء، وحرم الضعفاء من ذلك ومن خلال ما تمتاز به الشريعة الإسلامية الغرّاء من احتواء للمستجدات الفقهية، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، وقد كان هذا البحث من خلال استقراء المسائل الفقهية من مواردها، وتحليلها وبيان الأقوال فيها وأدلتها، وبيان أسسها وضوابطها وقواعدها وتوخي أسلوب المنهج العلمي المتين في البحوث، وقد تكوّن هذا البحث من مقدمة وتمهيد، وأربعة فصول، وخاتمة، لأهم نتائج البحث وفهارس للمراجع على النحو التالي:
أخلاقيات التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي
المقدمة: أهمية الموضوع وطريقة البحث فيه وخطته.
التمهيد: حقيقة التجارة الإلكترونية والمصطلحات ذات العلاقة وأهميتها.
الفصل الأول: أحكام العقود التجارية الإلكترونية وفيه مبحثان ومطالب.
المبحث الأول: الأسس والقواعد الشرعية للعقود التجارية الإلكترونية وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: مراعاة مصالح العباد.
المطلب الثاني: العقود مبناها الرضا.
المطلب الثالث: إباحة التجارة مع غير المسلمين. .
المطلب الرابع: التزام الضوابط الأخلاقية الشرعية، في العقود التجارية الإلكترونية.
المبحث الثاني: التكييف الفقهي لعقود البيوع التجارية الإلكترونية وأهم القرارات والفتاوى الفقهية المعاصرة فيها، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التكييف الفقهي للعقود التجارية الإلكترونية.
المطلب الثاني: أهم القرارات والفتاوى الفقهية المعاصرة للعقود التجارية الإلكترونية.
الفصل الثاني: الخدمات التجارية الإلكترونية وأخلاقياتها وفيه مباحث:
المبحث الأول: خدمة التجارة الإلكترونية بالدعاية والإعلان وتكييفها الفقهي وأخلاقياتها.
المبحث الثاني: خدمة الإنترنت التجارية الإلكترونية وتكييفها الفقهي وأخلاقياتها.
المبحث الثالث: خدمة التجارة الإلكترونية بالبطاقات الائتمانية المصرفية وأخلاقياتها.
المبحث الرابع: خدمة التجارة الإلكترونية بالاعتمادات المستندية وأخلاقياتها.
الفصل الثالث: حقوق الملكية الفكرية وحماية المستهلك وأخلاقياتها وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حقوق الملكية الفكرية وأخلاقياتها والتكييف الفقهي لها.
المبحث الثاني: حماية المستهلك وأخلاقيات التعامل معه.
الفصل الرابع: حماية التجارة الإلكترونية وفيا مبحثان:
المبحث الأول: حماية التجارة الإلكترونية في الشريعة الإسلامية.
المبحث الثاني: حماية التجارة الإلكترونية في النظم الوضعية.
الخاتمة: أهم الآثار للتجارة الإلكترونية.
فهارس المراجع.
التمهيد: حقيقة التجارة الإلكترونية والمصطلحات ذات العلاقة وأهـميتها:
التجارة لغة تطلق على تجر يتجر تجراً أو تجارة: إذا باع واشترى().
قال تعالى (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ)().
اصطلاحاً:
"التجارة: هي تقليب المال بالمعارضة لغرض الربح"().
وهناك تعاريف كثيرة أطلقت على التجارة الإلكترونية والتي تشمل:
الاقتصاد الرقمي التقني، حيث يقوم الاقتصاد الرقمي على حقيقتين: التجارة الإلكترونية وتقنية المعلومات، فتقنية المعلومات، أو صناعة المعلومات في عصر الحوسبة والاتصال هي التي خلقت الوجود الواقعي والحقيقي للتجارة الإلكترونية، باعتبارها تعتمد على الحوسبة والاتصال ومختلف الوسائل التقنية، للتنفيذ وإدارة النشاط التجاري، كما تقوم على فكرة الممارسة للأعمال والتسويق، وتوريد الخدمات على الخط بالاعتماد على شبكات المعلومات (الإنترنت)().
كما تطلق التجارة الإلكترونية على شرح عملية بيع أو شراء أو تبادل المنتجات والخدمات والمعلومات من خلال شبكات كمبيوترية ومن ضمنها "الإنترنت".
وفي عرف الاتصالات تطلق التجارة الإلكترونية على أنها وسيلة من أجل إيصال المعلومات أو الخدمات أو المنتجات، عبر خطوط الهاتف أو عبر شبكات كمبيوترية، أو عبر أي وسيلة تقنية.
ومن وجهة نظر الأعمال التجارية فهي عملية تطبيق التقنية من أجل جعل المعاملات التجارية تجري بصورة تلقائية وسريعة.
وفي نظر الخدمات تطلق على أنها أداة من أجل تلبية رغبات الشركات والمستهلكين والمدراء في خفض كلفة الخدمة والرفع من كفاءتها والعمل على تسريع إيصال الخدمة.
وتعرف في نظر الإنترنت بأنها التجارة التي تفتح المجال من أجل بيع وشراء المنتجات والخدمات والمعلومات عبر الإنترنت().
ولا شك أن تلك التعريفات السابقة حينما تأتي مجتمعة تعطي مفهوماً أوسع للتجارة الإلكترونية والتي تعني الوظيفة الإلكترونية للعمليات التجارية لهدف الربح.
المصطلحات ذات العلاقة: هناك ألفاظ ومصطلحات تجارية تتداخل مع مفهوم التجارة الإلكترونية، منها: الائتمان وهو مصطلح مدني بالمعنى الشامل ويعني الثقة التي تشعر الناس أن فلاناً مليء Solvable؛ لذلك يقال عنه Iladucredit، أي موثوق به أو مؤتمن، ولكنه على التعيين يراد به: الالتزام لقطعه أمر أو مصرف لمن يطلب منه أن يجيز له استعمال مال معين، نظراً للثقة التي يشعر بها نحوه.
وتطلق اللفظة -أيضاً- على المال نفسه، وهناك الائتمان الذاتي الشخصي Personnel، أي الذي يجاز لأجل ملاحقة المقترض، فلا ضامن للدين غيره، والائتمان العيني، Reelle Suret أي الذي يجاز على أثر رهن عين أو سندات مالية أو غير ذلك؛ ضماناً للدين.
وفي الحساب تدل اللفظة Credit على ما هو مطلوب للمرء وتقابلها المديونية Debit أو ما هو مطلوب منه().
السمسار "وسيط تجاري": هو الذي يقوم بأعمال السمسرة لحساب موكليه مقابل أجرة تحدد على أساس ثمن الصفقة المتفق عليها، ويحصل عادة على نصف السمسرة من المشتري والنصف الآخر من البائع، ويعتبر السمسار محترفاً مهنة التجارة، وهو مصطلح فقهي معتبر.
وأما الوساطة التجارية: فهي صفقة يصل بها المرء بين اثنين في سبيل تعاقد أو عمل، وتطلق على الأجرة التي يقبضها الوسيط مكافأة على ذلك().
ولذا يطلق على الوكيل بالعمولة أو الوسيط التجاري الذي يحترف القيام بالأعمال التجارية لحساب غيره وكالة عنهم، ويعم ذلك التاجر الذي يتعاطى الأعمال التجارية ويتخذها مهنة مألوفة، وفي بعض الحالات توجيه بعض الأعمال التي تستتبع بمجرد القيام بها صفة المهنة التجارية، ولكي يكون الشخص تاجراً يجب أن يمارس مهنته التجارية باسمه ولحسابه الشخصي()، ويفهم مما سبق إضفاء صبغة التجارة عامة والتجارة الإلكترونية على أجزاء كثيرة مما سبق؛ باعتبار المهنة التجارية، على اختلاف بسيط في التقنية المعاصرة الإنترنت، وهي صفة جديدة تضم للسمسرة والوساطة والائتمان والتاجر؛ لتحقق المعنى المطلوب، وبخاصة أن التجارة الدولية أخذت تتنامى على الإنترنت بيعاً وشراء وتبادلاً تجارياً().
خاصة وأن التكنولوجيا أصبحت مصطلحاً معاصراً تُطلق ويُراد بها التقنية والتطبيق الفني والعملي، وكل وسيلة تستخدم لتوفير الضروري للمعيشة الإنسانية والرفاهية أيضاً().
ووفق هذا المصطلح يمكن إدخال التقنية المعبر عنها بالإلكترونيات ضمن ذلك ولا فرق، والشريعة الإسلامية تجعل الإتقان للعمل -ومنه: التقنية المعاصرة- في هذا الإطار العام لها().
وأهمية التجارة في الإسلام: أنها من الأشياء المحبوبة والمرغوب فيها، وقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين يشتغلون بالتجارة في حياتهم، ولم يترك أبو بكر الصِّدِّيق الاشتغال بالتجارة حتى قيل له: إنك أصبحت قابضاً على ناصية الأمور في البلاد كلها، مالك وللتجارة؟، فقال لأكفل بها أهلي وأولادي. وكذلك كان الفاروق رضي الله عنه. وكذلك كان ذو النورين رضي الله عنه وكان من أغنى الناس يومئذ، وكذلك عبد الله ابن الزبير رضي الله عنه، وهو أحد العشرة الكرام، وكذلك نافع رضي الله عنه، فإنه كان من التجار الذين ضرب بهم المثل في التجارة، وكانت تجارته واصلة إلى الشام ومصر.
ذلك، لأن التجارة من الأمور الفاضلة في الإسلام، ولذا نجد علماء الإسلام في الأيام السالفة أغلبهم كانوا تجاراً وهذا الإمام البخاري كان في بلاده تاجراً رئيس التجار. وكان الإمام أبو حنيفة من التجار الأثرياء، والمال من أعظم نعم الله على عباده، حتى امتن الله به على أنبيائه، فقال مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) [الضحى : 8] وأنعم على سليمان عليه السلام بالمال والملك. ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى ذكر المال في القرآن وسماه فضل الله في 25 موضعاً، وباسم الخير في 10 مواضع، وفي 12 موضعاً باسم الرحمة وفي 12 موضعاً باسم الحسنة().
وإذا كان غير المسلمين من الشرق والغرب يهتمون بالكسب المالي والتجاري دون النظر للوسيلة فإن شريعتنا السمحاء حثت -أيضاً- على الكسب ولكن في إطار أخلاقي شرعي، ففي القرآن الكريم نجد مادة "تجر" تتسع لآيات تذكر التجارة وترفع من شأنها().
"ومن يبيع ويشتري ويتجر يتعيّن عليه معرفة أحكام التجارات، وكذا ما يحتاج إليه صاحب كل حرفة يتعيّن عليه تعلّمه، والمراد الأحكام الظاهرة الغالبة دون الفروع النادرة والمسائل الدقيقة"().
وتعتبر التجارة من المهن الشريفة التي يمارسها الإنسان لغرض المعيشة والكسب المشروع، وقد ضمت كتب الفقه الإسلامي ألوان التجارات وزكاتها والبيوع والسمسرة التي يتوسط صاحبها بين البائع والمشتري دلالاً على الثمن والسلعة().
ولأن المال هو قوام الأعمال الدنيوية كلها، وقد قدمه الله تعالى في الذكر فقال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)().
وأهمية التجارة الإلكترونية تظهر -أيضاً- في أن الناس أمام واقع ومفرزات عصر التقنية العالية، ونماء استخدام وسائل التقنية، وتزايد الاقتناع باعتمادها نمطاً لتنفيذ الأعمال ومرتكزاً ومحدداً للتطور، وأمام اتجاه الدول العربية والإسلامية للدخول في عضوية منظمة التجارة الدولية، وفي ظل متطلبات التجارة الدولية المتمثلة بتحرير التجارة في السلع والخدمات، ودخول الشركات الأجنبية الأسواق العربية والإسلامية كجهات منافسة حقيقية، ولما توفره التجارة الإلكترونية من تسهيل عمليات التنافس إذا ما توافرت المكنة لتأديتها، وتحققت متطلبات نجاح مشاريعها.
إن العالم الذي يتجه إلى إحلال التقنية في كل ميدان من ميادين النشاط الإنساني، وبشكل رئيس، الخدمات الحيوية والخدمات التي تقدمها الدولة، سيضع التجارة الإلكترونية موضوعاً على رأس موضوعات قائمة التطور والتنمية، لهذا كله، يعد تجاهل التجارة الإلكترونية أمراً غير متناسب مع رغبتنا في التعامل مع الإفرازات الإيجابية لعصر تقنية المعلومات وامتلاك وسائل مواجهة الآثار السلبية وإفرازات عصر العولمة().
وهناك دراسات وبحوث تشير إلى أن 1,3 مليار دولار حجم التجارة الإلكترونية لدول الخليج العربي، وبينما تصدرت دول مجلس التعاون الخليجي قائمة الدول العربية من حيث حجم التجارة الإلكترونية بقيمة 1,3 مليار دولار وأتت مصر بعدها بنحو 500 مليون دولار، فيما توزعت 1,2 مليار دولار أخرى على بقية الدول العربية. وذكرت الدراسات أن التجارة الإلكترونية أفضل السبل للوصول إلى الأسواق العالمية بأقل تكاليف ممكنة.
ودعت الدراسة إلى إزالة العقبات التي تحول دون تطور هذه الصناعة عربياً، وفي مقدمتها: سيطرة الشركات العالمية على الأسواق العربية في هذا المجال وضعف كفاءة وانتشار استخدام الإنترنت في العالم، وأكدت أن التجارة الإلكترونية تعد مفتاح التصدير للدول النامية خلال الفترة المقبلة، مما يعني ضرورة الإسراع بتهيئة وتطوير قاعدة مناسبة تمنحها القدرة على التحرك بمرونة في هذا المجال().
ولا شك أننا نشهد اليوم أوضاعاً في المعاملات الفقهية الاقتصادية لم تكن موجودة في العصور السابقة، ولم يعطها الفقهاء أحكاماً، غير أن الفقه الإسلامي لم يقف يوماً أمام ما يستجد من الحوادث، والطريق الصحيح لهذه المعاملات الجديدة هو: إعادة النظر والبحث والاستقراء والاجتهاد على وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإجماع والقياس والمصلحة المعتبرة والعُرف الصحيح والآثار المترتبة على ذلك، مما يفتح للناس آفاقاً واسعة في التعامل، ويرفع عنهم الحرج والمشقة والضرورية بطرقه الصحيحة، لمعرفة أحكام المعاملات الجديدة().
الفصل الأول
أحكام العقود التجارية الإلكترونية
وفيه مبحثان:
المبحث الأول
الأسس والقواعد الشرعية للتجارة الإلكترونية
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: مراعاة مصالح العباد
هناك قواعد أساسية للتجارة الإلكترونية. فالأصل "أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً.. والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضاً.. والمعاملات ما كان راجعاً إلى مصلحة الإنسان مع غيره كانتقال الأملاك بعوض وغير عوض بالعقد"()، وعقود التجارة الإلكترونية تدخل في هذه المقاصد.
وينبه الشاطبي على أهمية قضاء المصالح في جواز المعاملات التجارية ومنها: التجارة الإلكترونية؛ مما يفهم من سياق كلامه لقيام مصالح الإنسانية فيها، ولهذا تجده يهتم بالإطار الأخلاقي للتجارة وينص على أن "المصلحة التكميلية تحصيل مع فوات المصلحة الأصلية، لكن حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت.. وأصل البيع ضروري، ومنع الغرر والجهالة مكمل"().
وأساس التشريع الاقتصادي الإسلامي: هو المصلحة، وقد عبر الأصوليون بقولهم: "حيث وجدت مصلحة فثمة شرع الله"، وإنما تربط جميع الأحكام بالمصالح إذ الغاية منها جلب المنافع ودرء المفاسد()، ويتحقق ذلك في التجارة الإلكترونية.
ويبيّن د/محمد عقلة() -في هذا المجال- اعتماد المعاملات الاقتصادية الوازع الأخلاقي والباعث الديني -المتمثل في مرضاة الله سبحانه وتعالى- مقياساً لكون الأمر مصلحة.
وأستشهد بقول علال الفاسي()، "الذي لا شك فيه أن الشريعة الإسلامية مبنية على مراعاة قواعد المصلحة العامة في جميع ما يرجع للمعاملات الإنسانية؛ لأن غايتها هي تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية لسكان البسيطة، عن طريق هدايتهم لوسائل المعاش وطرق الهناءة... وراعى الإسلام هذه الحقيقة، فبين أن مقياس كل مصلحة هو الخلق المستمد من الفطرة.. واعتبار هذا العرف الإنساني الفطري مقياساً للقانون وأساساً للخلق".
وبهذا يفهم أن أساس المعاملات بوجه عام -والتجارة الإليكترونية خصوصاً تعتمد في إطارها العام ونموذجها الأمثل- الخُلق؛ مقياساً للنظام في التعامل بين سائر البشر، وأن المصلحة تُعدُّ من أهم الأسس في التطبيق التجاري الإلكتروني؛ لأنه لم يفتح باب الاستصلاح إلا في المعاملات ونحوها مما تعقل معاني أحكامها().
وينبه الشاطبي إلى ضرورة أخذ الحيطة والنظر في عواقب الأعمال التجارية وتجنب محرماتها، حيث نص على "أن أصل البيع ضروري، ومنع الغرر والجهالة ومنع بيع المعدوم إلا في السلم، وفي المعاملات: كالمنع من بيع النجاسات().
وأن المصلحة الشرعية تقتضي الأخذ بها في هذا الباب؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، ولقد كان موقف الإسلام - من لدن الصحابة إلى عصر الأئمة أصحاب المذاهب - العمل بالمصلحة، وتقريرها في القواعد الأصولية والفروع الفقهية().
وفي تقرير المسائل الفقهية المستجدة ومنها -في نظري- التجارة الإلكترونية ما أورده د/ محمد مصطفى شلبي (أن الفقه الإسلامي لم يقف يوماً أمام ما يستجد من الحوادث، وأن مثل هذه المعاملات التجارية الجديدة لا تكون شرعية إلا إذا استندت إلى دليل شرعي، فإذا لم تستند إلى دليل صحيح لا تكون شرعية..) وأدلة الأحكام في أصول الفقه هي: كتاب الله، وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإجماع الصحيح، والقياس، والعرف الصحيح، والمصلحة المرسلة، ثم دليلا الاستثناء: الإستحسان وسد الذرائع، ولو طبقنا ذلك على المعاملات المستحدثة فإننا ننظر إلى الآثار المترتبة عليها من حيث المنافع والمضار، فتباح حين الحاجة الملحة ودفع الحرج الشديد، هذا هو الطريق الصحيح لمعرفة أحكام المعاملات الجديدة().
ومما ينطبق على ذلك: وسيلة التجارة الإلكترونية المعاصرة، وأن أساسها مراعاة مصالح العباد؛ أخذاً من الشريعة الإسلامية الغرّاء.
المطلب الثاني
العقود مبناها الرضا
تعريف العقد لغة يطلق على الربط والشد والإحكام والتوثيق ونقيض الحل ويطلق على العهد() أيضاً.
وفي الاصطلاح: يطلق العقد على توافق إرادتين: إرادة الموجب، وإرادة القابل، على وجه مشروع، يثبت أثره في المحل المعقود عليه: كالبيع والإجارة().
وشرعية العقد التجاري الإلكتروني وتكييفه في الفقه الإسلامي تظهر في أن الشروط المعتبرة في العقود التجارية الرضائية وقواعد الإثبات فيها وإمكان الالتزام تسلماً وتسليماً مما يحقق حرية التعاقد والتيسير والمساعدة في هذا المجال المهم، ولقد عدت الشريعة الإسلامية إمكان الكتابة وسيلة من وسائل الرضا في العقد؛ امتثالاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)()، وقد جعل الرضا في العقود عامة والعقد التجاري بصفة خاصة من أهم خصائص التعامل بين الناس، وقد أجازت البحوث الفقهية المعاصرة شرعية إبرام العقد عن طريق استخدام التقنيات الحديثة، كالتلغراف والهاتف والفاكسملي()، وذلك للمصلحة المتحققة في ذلك، وللتسهيل على المتعاملين في مجالات التجارة إضافة إلى أخذ مبدأ الإيجاب والقبول في العقود وهو متحقق هنا، إما بالتوقيع أو المفاهمة وأخذ الصور التحريرية الموقعة عن طريق الرسائل بواسطة التقنيات المستحدثة غير أن الإشكال الوارد - هنا - هو مدى إمكان قياس الإنترنت والحاسب الآلي الحديث وعدهما من صور الرضا والإيجاب أو القبول في العقد. يذكر عبد الله راشد السنيدي في ضوابط العقد الإلكتروني:
"في ظل استخدام التقنيات الحديثة في إبرام العقود، كالتلغراف والهاتف والفاكسملي والكمبيوتر والإنترنت، ففي مجال إبرام العقود المتعلقة بالتلغراف والتلفون أو الفاكس، حصل نوع من البحث لتحديد عناصر التعاقد، وتحديد أثر هذه الوسائل في إثبات العقود، وما يُراد به من شروط وقيود، إلا أنه على الرغم من هذه الإشكالات فإن التعاقد عبر شبكة الإنترنت أصبح واقعاً لا يمكن إنكاره"().
وان ما يجعل أهمية عد قبول المحرر الإلكتروني دليلاً على الإثبات بديلاً عن المحرر الخطي إنما هي المصلحة المتحققة من وراء ذلك، ورفع الحرج والضيق عن المتعاملين في هذا النوع من التجارة، وهو مبدأ أقرته الشريعة في مقاصدها التشريعية()، بالإضافة إلى أن السرعة في المعلومات والإنجاز، ومواكبة التطور العلمي، وتسهيل التجارة الإلكترونية عبر صناديق البريد الإلكتروني E-mail ، وإمكان الاتصال الصوتي والمرئي على الإنترنت، وإنشاء محلات تجارية إلكترونية، يمكن زيارتها والاطلاع عليها وعلى البضائع الموجودة فيها، وتحرير العقود على أقراص وشرائط ممغنطة، كل ذلك سهل هذه العملية في ظل تصور حيثيات العقد الإلكتروني من بدايته إلى نهايته، كل هذا يجعل القبول المشروع لهذا النوع من العقود المستحدثة().
في حين أن الأنظمة الحديثة قد أخذت به، وعدته من البيانات المهمة في العقود التجارية، وأي مخالفة يرجع فيها لذوي الاختصاص، من هيئة التحقيق والادعاء العام وديوان المظالم، في ضوء النظام الوارد في نظام البيانات التجاري السعودي()، وغيره من الأنظمة المعاصرة، كما أن التوقيع والتدوين الإلكتروني وحجيته في الإثباتات واحترامه وأنه مساو للمحررات الخطية ما أقرّ به في القانون الفرنسي(). مما يدل على أن العقود التجارية مبنية على الرضا.
المطلب الثالث
إباحة التجارة مع غير المسلمين
اختلف الفقهاء في حكم سفر المسلم للتجارة إلى غير بلاد الإسلام على قولين: -
القول الأول: إن كان المشركون أهل ذمة وينعزلون في بلد معين، فهذا البلد يُعدُّ من دار السلام، والسفر إليه جائز، بل يجوز المقام فيه للتجارة؛ لأنه جزء من دار السلام()، والسفر إليها في أصله مكروه، إلا لغرض صحيح، مثل الدعوة، أو أداء رسالة، أو القيام بمهمة سفارة، أو تجارة، ونحو ذلك، فإنه يجوز السفر من أجلها، لكن بشرط أن يأمن على دينه، وأن يستطيع إظهاره، وألا تجري عليه أحكام الكفر، وهو الذي عليه جمهور الفقهاء من غير المالكية، واستدلوا على ما ذهبوا إليه: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث رسله إلى ديار أهل الحرب؛ ليؤدوا إليهم كتبه()، أو ليتفاوضوا معهم حول علاقة- السلم والحرب()، بل كان بعض الصحابة- يتاجر في ديار الحرب، مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد روت أم سلمة قالت: "خرج أبو بكر في تجارة إلى بصرى قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة"().... وذكرت تمام القصة.
فالسفر لدار الحرب من أجل التجارة لا بأس به بالشرط الذي ذكرناه، هذا هو رأي جمهور الفقهاء().
القول الثاني: يذهب المالكية إلى عدم جواز السفر للتجارة الدولية للبلاد غير الإسلامية، وأن على الإمام منع المسلمين من الخروج من دار الإسلام، وذلك لأن المسلم مأمور بالهجرة من دار الحرب وعدم البقاء فيها().
غير أن بعض المالكية خالف هذا ووافق الجمهور، كابن العربي().
والراجح من القولين: القول الذي يرى جواز سفر المسلم إلى دار الحرب للتجارة، إذا كان يأمن الفتنة في دينه، وكان يظهر دينه ويعلنه، وهو الذي عليه عامة الفقهاء القدامى والمعاصرين، ويفهم مما مضى جواز التجارة الإلكترونية بالمفهوم المعاصر لهذا النوع من المعاملات الحديثة، بالضوابط المشترطة آنفا.
المطلب الرابع
التزام الضوابط الأخلاقية الشرعية في العقود التجارية الإلكترونية
هناك أسس شرعية ينبغي للتاجر أن يتحلى بها، وأن يجعل منها نبراساً في حياته التجارية. ومن تلك الأخلاق الشرعية وضوابطها:
تحريم الغش والخدع لكسب التجارة
لقد حرم الإسلام الغش والخداع في التعامل؛ لأن مبنى التعامل في الإسلام يقوم على الصدق والأمانة، ولكن بعضاً من سفهاء الناس لا يرعون حلاً ولا حرمة في معاملاتهم، يقومون بأساليب متعددة لغش الناس بقصد زيادة أموالهم()، وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فعل ذلك ليس جائزاً في منهج الإسلام القائم على الصدق والأمانة، وذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام؛ كي يراه الناس؛ من غش فليس مني"، وفي رواية "من غشنا فليس منا"().
ولقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلابة، كما في حديث حبان بن منقذ الذي كان يغبن في المبايعات فقال له رسول الله: "إذا بايعت فقل: لا خلابة" والخلابة: هي كل أنواع الغش والاحتيال التي يستعملها البائع لإنفاق سلعته().
تحريم الربا كسبب من الأسباب التجارية:
حرّمت الشريعة الإسلامية الربا تحريماً قاطعاً بشتى صوره وأشكاله() وذلك لورود الأدلة على ذلك، ومنها: قول الله سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)().
ومنه قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ*وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)().
ومن الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "درهم ربا يأكله الرجل -وهو يعلم- أشد عند الله من ست وثلاثين زنية().
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جابر أنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، وقال: (هم سواء)().
والربا يقوم على كسب بلا جهد، يثري به صاحب المال على حساب الآخرين، بعيداً عن الخسارة، إنما له فائدة مضمونة ينالها في جميع الأحوال().
تعيين الأموال الربوية:
لم يرد تعيين الأموال الربوية في القرآن الكريم، وإنما ورد تعيينها في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذهب بالذهب، مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والفضة بالفضة، مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والحنطة بالحنطة، مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والشعير بالشعير، مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والتمر بالتمر مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا. فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد"(). وعلى ذلك جرى جمهور الفقهاء في حرمة المعاملات الربوية().
تحريم الاحتكار كسبب من أسباب التجارة والشركة:
إن المحتكر هو الذي يحبس السلع حتى يبيعها بأسعار مرتفعة يشبع بها نهمه وجشعه للمال، وهو يشترك مع المرابي في هذه النفسية الآثمة وحب الأثرة والأنانية().
الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة، منها: حديث معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحتكر إلا خاطيء"()، معنى الخطأ في الحديث: هو الخطأ الذي يؤدي بصاحبه إلى الهلاك عن طريق الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى، كما جاء في حديث ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون"(). وفي حديث آخر لابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من احتكر الطعام أربعين ليلة بريء من الله وبريء الله منه"(). وقد بيّن الإمام ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية أن تواطؤ أرباب السلع على بيع سلعهم التي يحتاج إليها الناس بأكثر من ثمنها نوع من الاحتكار، وكذلك الإلزام بألا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا أناس معرفون، فلا تباع السلع إلا لهم ثم يبيعونها هم بما يريدون.
ويعد حبس منافع الدور والأرض والعمال وعدم بذلها إلا بأكثر من المثل من الاحتكار().
وبما أن شريعة الإسلام قد حرمت الاحتكار فقد اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى أن للإمام أن يبيع السلع المحتكرة على أصحابها أو يسعر عليهم. فيمنعهم من البيع إلا بسعر تتحقق فيه مصلحة المستهلكين والمنتجين أو البائعين على حد سواء().
تحريم الرشوة كسبب للمنافسة التجارية غير المشروعة:
الرشوة هي: المال الذي يعطيه إنسان لآخر من أجل إعانته على الباطل.
وقد حرمت الشريعة الإسلامية الرشوة؛ لما فيها من الإثراء على حساب الغير بدون جهد يبذله. والرشوة تتعدد أساليبها ويجني المستغلون عن طريقها أموالاً طائلة، يسطون عليها من أصحاب الحاجات عن طريق استغلال مناصبهم وجاههم من أجل جمع الثروات. والإثراء على حساب الآخرين، وغالباً ما يكونون من المحتاجين والضعفاء من الناس().
فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما في عملية الرشوة().
روى البخاري() ومسلم() عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من الأزد على أموال الصدقة يقال له: ابن اللتيبه، فلما جاءه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا لكم، وهذا أهدي لي فقال له: "هلا قعدت في بيت أمك وأبيك فنظرت أيهدى لك أم لا؟" ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وقال: "ما بال العامل نستعمله على بعض العمل من أعمالنا ثم يجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي! أفلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه فينظر أيهدى له شيء أو لا! والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه. فقال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت".
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه عنى بمحاسبة ولاته على الأمصار، ويتجلى في سؤاله لهم: من أين لك هذا؟
وكان رضي الله عنه حين يتأكد من سلامة مصدر مال الوالي يدفعه إليه ويعيده إلى عمله، وعندما يغلب على ظنه أن مال واليه دخل فيه ما لا يجب شاطره، أو أخذ معظمه، حسب ما يراه كافياً ومناسباً.
وبذلك نجد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسى قاعدة: من أين لك هذا؟ قبل التشريعات الحديثة بقرون()، وهو دليل .على تحريم الرشوة؛ لأنها من أساليب المنافسة التجارية غير المشروعة.
تحريم القمار لكونه سبباً من أسباب المنافسة التجارية غير المشروعة:
حرّمت الشريعة الإسلامية القمار بكافة أنواعه وشتى صوره وأشكاله؛ لما فيه من الكسب بلا جهد، وأكل أموال الناس بالباطل واعتماده على الحظ في كسب المال، وهو ينشر العداوة والبغضاء، وسوء الأخلاق بين الناس، ويشغل عما أوجبه الإسلام على المؤمنين من الطاعات وصنوف العبادات، وغالباً ما تحيط به مظاهر المجون والفساد والترف وشرب الخمور()؛ لذا جمع الله تحريم هذه الأشياء المتلازمة في آية واحدة، حيث قال جلّت قدرته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)()، وفي ذلك بيان لحرمة المنافسات التجارية غير المشروعة.
تحريم الاتجار بالمحرّمات:
حرمت الشريعة الإسلامية المتاجرة بالمحرّمات بجميع أنواعها، ومن ذلك: الاتجار بالخمور بجميع أنواعها: من حشيش، وأفيون، كما حرمت الاتجار بالأعراض والأجساد تحت جميع العناوين وشتى صنوف الإعلانات الزائفة التي تبدل الحقيقة وتضفي على الرذائل صبغة الفضيلة أو الرغبة في التحرر والتقدم().
وقد هدد الله تعالى المتعاملين بالمحرمات بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)().
وكذلك حرم المتاجرة مع الأعداء بالسلاح والحديد، وكل ما فيه ضرر على المسلمين().
تحريم الغصب لكونه سبباً من الأسباب الرابحة في التجارة:
الغصب هو الاستيلاء على مال الغير ظلماً. وقد اتفق الفقهاء على حرمة الغصب، وأن الذي يرتكبه يعدُّ مرتكباً للكبيرة. وأن الكسب عن طريق الغصب حرام لا يحل أخذه. بل قد نص الفقهاء على أنه لو أخذ مال غيره بطريق الحيلة فهو حرام، وقد تضافرت نصوص الشريعه على حرمة الغصب() فقال تعالى (لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)().
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امريء، مسلم إلا بطيب نفس منه"().
قال صاحب الاختيار: دلَّ على حرمته: الإجماع، وهو من المحرمات عقلاً؛ لأن الظلم حرام عقلاً على ما عرف في الأصول، فكيف بك إذا تأيدت هذه المحرمات عقلاً، بنصوص القران والسنة().
تحريم السرقة:
إن النفس الخبيثة قد تتسلط عليها شهوة جمع المال فتجر صاحبها إلى موبقات الأعمال فتمتد يده الأثمة إلى اغتيال أموال الآخرين بسرقتها، وقد حرّمت الشريعة الإسلامية السرقة وحددت عقوبة زاجرة رادعة لكل من تسوّل له نفسه سرقة جهود وأتعاب الآخرين().
والسرقة تنقسم إلى قسمين:
السرقة الصغرى:
وهي تلك التي تكون على طريقة أخذ مال الغير على وجه الاختفاء عن مالكه(). وقد حدّ القرآن الكريم هذه الجريمة بالعقوبة المناسبة التي في إيقاعها أمن المجتمع وعقوبة المجرمين. فقال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)().
السرقة الكبرى:
وهي التي تكون عن طريق قطع الطريق بالحرابه ونتيجة لتعدي هؤلاء على الأمن وأرواح وأموال أفراد المجتمع()، فقد قرر القرآن الكريم لها عقوبة زاجرة فقال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ)().
المبحث الثاني
التكييف الفقهي لعقود البيوع التجارية الإلكترونية
وأهم القرارات والفتاوى الفقهية المعاصرة فيها
وفيه مطلبان:
المطلب الأول
التكييف الفقهي لعقود البيوع التجارية الإلكترونية
يُعدُّ البيع الإلكتروني في التجارة الإلكترونية سمة قوية في العرف التجاري العالمي المعاصر؛ لاحتوائه على السرعة والقوة والإنجاز والربحية وفق أطر وعلاقات برمجية ظهرت في أقراص ممغنطة ذات تخزين عال وسيطرت عليها لغة التجمع الرمزي والدوائر الإلكترونية المطورة في أجيال صناعية وتقدم اقتصادي يخدم المعاملات التجارية المعاصرة().
وتُعدُّ التجارة من وسائل البيع المشروعة في الإسلام، فقد "أجمع العلماء على أن العلم منه: ما هو فرض متعين، ومنه: ما هو فرض على الكفاية.. والنوع الثاني: ما كان فرضاً لازماً؛ ولكن وجوبه متوقف على تحقق شرط، مثل العلم بأحكام الزكاة، وهكذا أحكام المعاملات والمبايعات والمداينات والشركات وهكذا من باشر البيع والشراء، وذلك يحصل بسؤال أهل العلم العارفين بأحكام الشراء جملة وتفصيلا. قال تعالى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(). وقوله تعالى (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ)() عقب آية الدين "لينبّه على أن من تعاطى الدين والبيع والتجارة فإنه يجب عليه أن يتقي الله ويتعلّم من أحكامها ما يمنعه ويحجره عن ظلم العباد وأكل الحرام"(). "وما به قوام المعايش، كالبيع والشراء... فالنفوس مجبولة على القيام بها.. فهي -إذن- من فروض الكفاية"().
والبيع التجاري الإلكتروني له صور عديدة إما أن يختار السلعة على الموقع الإلكتروني المعروف وبعد الموافقة يدفع ثمنها وتشحن السلعة للمشتري، وتحميلها على جهاز المشتري، أو تكون على طريقة التوقيع الإلكتروني بواسطة بطاقة الائتمان التجاري، وسحب المبلغ من حساب المشتري بواسطة التاجر (الوسيط) بين البائع والمشتري، وأخذ عمولة على ذلك، أو عن طريق الإعلان التجاري للسلعة والاتصال على صاحب السلعة المعلن عنها وغير ذلك.
والتكييف الفقهي لهذا النوع من البيوع المعبّر عنه بالبيع التجاري الإلكتروني، فإنه ومن خلال التقعيد الفقهي لهذه النازلة والاستقراء الفقهي لها، تبيّن جواز ذلك، ومما يفهم في تصوّر لعقد البيع الإلكتروني لما ورد عن ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى() ما نصه "إن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حداً، لا في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا نقل عن أحد من أصحابه والتابعين أنّه عيّن للعقود صفة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك، من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة، بل قد قيل: إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم، وأنه من البدع، وليس لذلك حد في لغة العرب، بحيث يقال: إن أهل اللغة يسمون هذا بيعاً؛ حتى يدخل أحدهما في خطاب الله، ولا يدخل الآخر، بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعاً دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعاً، والأصل بقاء اللغة وتقريرها، لا ننقلها ولا نغيرها، فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجح فيه إلى عرف الناس وعادتهم، فما سموه بيعاً فهو بيع، وما سموه هبة فهو هبة..
والعادات ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر.. والعقود والشروط من باب الأفعال العادية والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع".
ومما يدل على ذلك: أن العقود التجارية الحاصلة في التجارة الإلكترونية جائزة؛ لأنها من هذا الباب حسب فقه ابن تيمية رحمه الله.
وعن "العقود التجارية الجديدة نجد أن الشريعة الإسلامية لم تحصر التعاقد في موضوعات معينة، ولم يوجد هناك نص في الشريعة يحدد أنواع العقود، ولهذا نرى إمكان استيعاب الفقه الإسلامي لهذه العقود، وخاصة المذهب الحنبلي الذي هو أكثر المذاهب توسعاً في الاعتماد على الشروط"().
ولقد تناول الفقهاء -أيضاً- اللفظ المعبّر بأي وسيلة كانت، فاللفظ كما يقول الشاطبي: "إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى المقصود"(). والإيجاب تعبير صادق -عند الحنفية- يثبت به خيارات البيوع()، ويُقرر الشافعية العقد بالوسائل الحديثة، سواء الهاتف أو الإنترنت أو الفاكس في ضوء الفقه لديهم. وقالوا: "لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف"()، وهو ظاهر في وسيلة البيع الإلكتروني.
ومثله: ما جاء في الفقه الحنفي حول هذه المسألة، وانعقاد العقود التجارية بالأسباب الشرعية، من غير نظر إلى تحديد نوعيتها، سواء الوكيل أو السمسار أو العاقد نفسه، فقد جاء عنهم: "إذا قال الرجل: اذهب بثوبي هذا إلى فلان حتى يبيعه أو اذهب إلى فلان حتى يبيعك ثوبي الذي عنده فهو جائز"()، "ولو قال: بعتكه بكذا، بعد وجود مقدمات البيع فقال: اشتريت ولم يقل: منك، صح. وكذا العكس"()، "وكذا النطق ليس بشرط لانعقاد البيع والشراء.. لأنه إذا كانت الإشارة مفهومة في ذلك فإنها تقوم مقام عبارته"()، وهي رسائل معبّرة، وكذلك البيع الإلكتروني.
وفي الفقه المالكي: "الفرق بين قاعدة الأسباب العقلية والأسباب الشرعية -نحو بعت واشتريت- يثبت سبب هذا القسم مع آخر حرف منه؛ تشبيهاً للأسباب الشرعية بالعلل العقلية؛ لأن العلل العقلية لا توجب معلولها إلا حالة وجودها، فكذلك الأسباب الشرعية"()، إذن الأسباب العلمية المعاصرة كالإنترنت والهاتف والحاسوب: أسباب تنفيذية، تعقد بسببها العقود التجارية، ولا فرق عند تحقق موجبات البيع الشرعي.
ومما يزيد الأمر سعة في الفقه الإسلامي: ما جاء في الفقه الشافعي "إذا قال السمسار المتوسط بينهما للبائع: بعت بكذا؟ فقال: بعت. وقال للمشتري: اشتريت بكذا؟ فقال: اشتريت. فوجهان حكاهما الرافعي، أصحهما -عند الرافعي وغيره- الانعقاد، لوجود الصيغة والتراضي، والثاني: لا ينعقد لعدم تخاطبهما"().
وفي صورة أخرى لانعقاد التجارة في البيوع بالأسباب: ما جاء عن "بعض الأصحاب -تعريفاً على صحة البيع بالمكاتبة- لو قال: بعت داري لفلان وهو غائب فلما بلغه الخبر، قال: قبلت. انعقد البيع، لأن النطق أقوى من الكتب"().
وفي الفقه الحنبلي: "قاعدة في بيان الوقت الذي تثبت فيه أحكام الأسباب مع المعاملات "للأسباب مع أحكامها أحوال... وأما ما يفتقر إلى الجواب فمثله مثل المعاوضات... فإذا قال: بعتك هذه الدار بألف اقترنت صحة البيع بالتاء معه قوله: قبلت، على الأصح.. وأما ما يتعجل أحكامه ويتأخر عنه بعض أحكامه فله أمثلة: أحدها البيع، ويقترن الانعقاد والصحة بآخر حروفه على الأصح، ويتراخى لزومه إلى الإجازة والافتراق وانقضاء خيار الشرط"().
وبهذا يظهر أن التكييف الفقهي لعقد البيع الإلكتروني على وجه عقد البيع بواسطة السمسرة جائز، بشروط البيع التجاري وأركان الإيجاب والقبول، وثبوت الخيارات في البيوع وانعقاد العمل التجاري بدون نظر إلى الأسباب الموجبة له، ما دام هناك قرائن ومسببات توجب انعقاده، مع وجود الرضائية والاختيار والعين المباحة في سلع البيوع المتعددة.
ومما ينبغي الحرص عليه: أن العقود بالوسائل المبيحة مبيحة للطرفين فيما لم يشترط فيها القبض الفوري، أما إذا بيع ربوي بمثله فلا يصح العقد بها إلا إذا تم القبض، بأن يكون لهما وكيل بالتسليم عند الآخر، أو عن طريق أحد البنوك، ولكل منهما رصيد، وغيرها مما هو من متعلقات القبض()، بدليل إجماع العلماء على ذلك؛ مستندين على الأحاديث، ومنها: الحديث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عيناً بعين، فإذا اختلفت هذه الأوصاف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد"().
فدل على اشتراط القبض الفوري في تلك الأصناف والابتعاد عن العقود التي فيها شبهة الحرام، سواء عن طريق الشركات أو وسائل الاتصال المعاصرة، وعدم حل أرباحها أو التعامل معها لأن الغالب عليها المقامرة والتدليس والغش.
المطلب الثاني
أهم القرارات والفتاوى الفقهية المعاصرة للتجارة الإلكترونية
هناك فتاوى وقرارات انتهت إليها المجامع الفقهية والهيئات بخصوص أحكام التجارات الإلكترونية منها: موقع "شركة اربح الإلكترونية شركة مساهمة يقوم المشترك بدفع 25 دولار ويعطى صاحبها مقابلها صفحة إلكترونية له مدى الحياة وترويجها يكون، إما عن الإعلان، أو البريد الإلكتروني، أو الهاتف. ويربح دولارات كلما اشترك معك آخر، أو سعيت أكثر... فهذه الشركة تحوطها الشبهات والمقامرات من أطراف متعددة، وهي وإن كانت بعض شروطها لا غبار عليه، ولكن الغالب عليها المقامرة، ولهذا فإنني لا أرى جوازها، مثلها مثل الدولار الصاروخي، فقد أفتت أكثر لجان الفتوى بمنعه، وهذه مثلها بل نوع منها"().
وقد جاءت نص الفتوى من مجمع الفقه الإسلامي حول هذا الموضوع (عقود التجارة الإلكترونية بالوسائل الحديثة) ونصها "الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (54/3/6)
بشأن
حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ- الموافق 4 ا - 20 آذار (مارس) 1990م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة".
ونظراً إلى التطور الكبير الذي حصل في وسائل الاتصال وجريان العمل بها في إبرام العقود لسرعة إنجاز المعاملات المالية والتصرفات.
وباستحضار ما تعرض له الفقهاء بشأن إبرام العقود بالخطاب وبالكتابة وبالإشارة وبالرسول، وما تقرر من أن التعاقد بين الحاضرين يشترط له اتحاد المجلس (عدا الوصية، والإيصاء، والوكالة) وتطابق الإيجاب والقبول، وعدم صدور ما يدل على إعراض أحد العاقدين عن التعاقد، والمولاة بين الإيجاب والقبول بحسب العرف.
قرر:
إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد، ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه، وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة أو السفارة (الرسول)، وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس وشاشات الحاسب الآلي (الكمبيوتر) ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله.
إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي، فإن التعاقد بينهما يعد تعاقداً بين حاضرين وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء المشار إليه في الديباجة.
إذا أصدر العارض بهذه الوسائل إيجاباً محدد المدة يكون ملزماً بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه.
إن القواعد السابقة لا تشمل النكاح لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصرف لاشتراط التقابض، ولا السلم لاشتراط تعجيل رأس المال.
ما يتعلق باحتمال التزييف أو التزوير أو الغلط يرجع فيه إلى القواعد العامة للإثبات"().
وهناك فتاوى معاصرة عن التجارة الإلكترونية ومنها:
وعن حكم عمليات البيع عن طريق شبكة الإنترنت جاءت الفتوى عن السؤال: تتم في هذه الأيام عمليات البيع عن طريق شبكة الإنترنت فما الحكم الشرعي في ذلك؟ أفتونا مأجورين؟
والجواب: من شروط البيع: معرفة الثمن، ومعرفة المبيع، حتى تزول الجهالة عن العوض والمعوض، فإن الجهالة تسبب الخلافات والمنازعات، مما يكون له الأثر الظاهر في وقوع العداوات بين المسلمين، والتهاجر والتقاطع والتدابر الذي نهى الله تعالى عنه وحذر منه، وحيث إن معرفة السلع يتوقف تحققها على الرؤية أو الصفة الواضحة، فنرى أنها لا تتبين إلا بالمقابلة والمشافهة ومشاهدة المبيع ومعرفة منفعته ونوعيته، وقد لا يحصل ذلك على التمام، إذا كان التعاقد بواسطة الشاشات أو المكالمات التي يقع فيها التساهل في البيان والمبالغة في مدح الإنتاج، وفي ذكر محاسن المنتجات، كما هو ظاهر في كثير من الإعلانات والدعايات، التي تنشر عبر الصحف والمجلات، فإنها لا تتحقق أو أكثرها عند الاستعمال، وعلى كل حال فإذا تحقق شرط البيان والمعرفة للثمن والمثمَّن وزالت الجهالة، فإنه يجوز التعامل والتعاقد -بيعاً وشراء- بواسطة الهاتف، وبواسطة الشاشة، أو الإنترنت، أو غيرها من الوسائل التي يستفاد منها، وتؤمن المفسدة والغرر والاستبداد بالمصالح واكتساب الأموال بغير حق، فإذا أضيف شيء من هذه المحاذير، لم تجز المبايعة بهذه الوسائل فكم حدث بسببها من الخسارات الفادحة وإفلاس الكثير من ذوي الأموال الطائلة، لما يحصل بعدها من المنازعات والمخاصمات التي انشغل بحلها القضاة والحكام والله أعلم.
قاله وأملاه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله 24 /7/1420هـ().
وعن حكم أسهم الشركات -بيعاً وشراء- عبر شبكة الانترنت جاءت الفتوى عن السؤال: يتم عبر شبكة الإنترنت تداول أسهم الشركات التجارية بيعاً وشراء. فما الحكم الشرعي في ذلك؟
والجواب: الشركات الإسلامية جائزة ومباحة، سواء كانت تجارية أم صناعية، أو زراعية، أو معمارية، أو نحوها، وقد ذكر الفقهاء للشركة خمسة أنواع، وهي: شركة العنان، وشركة المضاربة، وشركة الأبدان، وشركة الوجوه، وشركة المفاوضة. فإذا كانت الشركة قد وضعت رأس مالها في سلع تعرض للبيع والشراء، وتلك السلع مما يباح التعامل فيها، جاز بيع الأسهم فيها إذا كان رأس المال معروفاً، ومقدار السهم المبيع محدداً، فيجوز لمالكه أن يقول للمشتري: بعتك نصيبي من هذه الشركة الذي يمثل نصفها أو عشرها أو ربع العشر أو عشر العشر أو نحو ذلك، فيقوم المشتري مقام البائع، ومتى صفيت الشركة أخذ رأس مال البائع وقسطه من الربح، وهكذا يقال في الشركات الصناعية إذا جعل رأس المال في معدات وأدوات تستعمل في الإنتاج وتسويق ما ينتجونه، فللمساهم أن يبيع نصيبه كله أو بعضه بثمن معلوم يتم قبضه بمجلس العقد، أو قبض سنده، حتى لا يكون بيع كاليء بكاليء، وإذا كان للشركة رصيد من النقود فالأولى عدم بيعه، لئلا يبيع نقداً وسلعاً بنقد وهي مسألة (مد عجوة)، إلا أن يكون يسيراً فيدخل تبعاً، ولا بأس ببيع الأسهم المذكورة بواسطة الأجهزة الجديدة: كالهاتف والإنترنت، إذا تحقق الإيجاب والقبول متواليين، فإن اختل التوالي، أو كان القبول مخالفاً للإيجاب، أو حصلت جهالة في مقدار المبيع، أو لم يحصل قبض العوض أو سنده حال التعاقد، أو كانت الأسهم ربوية كأسهم بعض البنوك، فإن هذا البيع لا يجوز، سواء أكان بواسطة الإنترنت أم المشافهة أو الهاتف أو غير ذلك. والله أعلم.
قاله وأملاه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبر ين، حفظه الله 24 /7/1420هـ().
وبمناقشة ما مضى -من قرارات وفتاوى فقهية في صيغ عقود تجارية إلكترونية- فالذي يظهر لي أن عقد البيع التجاري الإلكتروني بموجب الاتفاق بين طرفي العقد وبهذه الوسيلة التجارية المشروعة على أسس وضوابط وشروط البيع، يظهر لي جواز هذا النوع من الأعمال التجارية بواسطة الشبكة العنكبوتية الإنترنت، في ضوء الإحكام الفقهية السابقة، والله أعلم.
الفصل الثاني
الخدمات التجارية الإلكترونية وأخلاقياتها
وفيه مباحث:
المبحث الأول
خدمة التجارة الإلكترونية بالدعاية والإعلان
وتكييفها الفقهي وأخلاقياتها
الإعلان في اللغة يطلق على إظهار الشيء وإشهاره().
وفي الاصطلاح: يطلق على الدعاية والإعلان التجاري يطلق على مجموعة الوسائل المستخدمة، بقصد التعريف بمشروع تجاري، أو امتداح منتج ما، وبهذا يظهر أنه عملية اتصالية تهدف إلى التأثير من بائع على مشتر بواسطة وسائل الاتصال المستحدثة: كالصحف أو التلفزيون أو الإنترنت، والمعبّر عنها بالإعلان التجاري، حيث يصف السلع وصفاً مبالغاً فيه؛ بقصد الانتشار وجذب المشترين ().
وللدعاية والإعلان التجاري وسائل عدّة:
إما أن يكون ذلك بوسائل مرئية، أو مسموعة، أو مقروءة، حيث تعرض في التلفاز الرائي، وكذلك العروض للسلع أو الهدايا الترويجية، أو المعارض والأسواق، أو اللوحات المضيئة. وهي وسائل إعلانية مرئية كما يكون كذلك بالراديو، ومكبرات الصوت وهي وسائل مسموعة، أو الصحف والمجلات والرسائل البريدية، الإعلانات الكتابية، أو الإلكترونية، أو بطاقات أو ملصقات، مما يسهل العملية التجارية على أفق أوسع وأسرع وأربح، وهي وسائل مقروءة وناطقة().
والتكييف الفقهي للدعاية والإعلان التجاري الإلكتروني: يتضح من أن صور الإعلان التجاري في الفقه الإسلامي "السمسرة" والسمسار الدلال الذي يتوسط بين البائع والمشتري لشراء السلعة أو بيعها() وكذا "البيع بالمزايدة" وصورته "فأما ما يطاف به فيمن يزيد وطلبه طالب، فلغيره الدخول عليه والزيادة فيه()، وقد أجاز العلماء الصورتين السابقتين. فقد قال البخاري رحمه الله "باب أجرة السمسرة، ولم ير ابن سيرين بأساً. قال ابن عباس: لا بأس أن يقول: بع هذا الثوب، فما زاد على كذا وكذا فهو لك، وقال ابن سيرين: إذا قال: بعه بكذا، فما كان من ربح فلك، أو بيني وبينك، فلا بأس به()، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم"()، وهذا دليل على أن السمسرة صورة من صور الإعلان التجاري قديماً وحديثاً، سواء على السير بالأقدام أو على الإنترنت أو التلفاز والصحف وغيرها.
وإذا عرض البائع سلعته في السوق عن طريق المزايدة، فهو بيع جائز؛ لعموم الحديث الصحيح "أن رجلاً اعتق غلاماً عن دُبر، فاحتاج، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا فدفعه إليه"()، وهذه صورة من صور الإعلان التجاري؟ لأنه يتم عرض السلعة لكي يتنافس عليها المشترون من غير غش ولا كذب ولا غبن أو تدليس.
وهذا التنويه المعلن عنه بسبب الجودة أو المنافع والحث على الشراء ومدى شرعيته المعبّر عنه بالإعلان التجاري الإلكتروني قد أوضحته بعض الفتاوى المعاصرة، حيث جاء فيها: "إن الإعلان عن التجارة والتعريف بها أمر جائز شرعاً، ولا حرج على المعلن في إعلانه ولا في الثناء على تجارته ما لم يخالف في ذلك المقاصد الشرعية للتجارة"() وقد أصبح هذا النوع من التعامل التجاري الإلكتروني سائغاً.
وبمناقشة ما مضى يظهر لي أن الفقه الإسلامي لم يحرم الإعلان تحريماً مطلقاً، بل حدد له منهجاً ثابتاً، وهو تحقيق النفع، ودفع الضرر، ضمن قواعد منع الضرر، ومنها: درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة، ولا ضرر ولا ضرار، وأن تكون الدعاية والإعلان بالوسائل المباحة، وعدم الكذب أو الغش أو الخداع، والقدرة على توصيل السلعة المعلن عنها، وعدم التغرير()؛ امتثالاً للحديث "فإن بينا وصدقا بورك لهما، وان كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"().
المبحث الثاني
خدمة الانترنت التجارية الالكترونية
وتكييفها الفقهي وأخلاقياتها
يقصد بمقدمي خدمة الإنترنت الإلكترونية: الجهة التي تقدم للمستخدمين المزودين بحاسبات آلية الدخول إلى الخطوط السريعة للإنترنت، سواء أكانت حكومية أم خاصة. فهي تؤمن لهم الخدمة الإلكترونية بموجب عقود اشتراك نظير أجر معين.
وتقدم مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية -القناة الرئيسية- خدمة الإنترنت بالمملكة العربية السعودية، وتقدم ضماناً للخدمة يغطي الأعطال التي تكون مسؤولة عنها، وتعوض كل ساعة عطل بأجر ساعتين، ولا يشمل هذا الضمان انقطاعات المدينة التي يكون الخط الخارجي هو المسؤول عنها().
وتهدف هذه الخدمة إلى التحليل والاستخراج و العمل على زيادة الطلب، وإدارة الطلبيات التجارية والتنفيذ والدفع وخدمة الزبائن().
والتكييف الفقهي لهذه الخدمة الإلكترونية (الإنترنت)، عقد إجارة شرعية بين مقدم الخدمة وبين المشتركين وفق شروط الإجارة الجائزة، من كون المنفعة معلومة ومباحة، ومملوكة أو مأذون فيها، والتراضي بين طرفي العاقدين وكون العوض معلوماً، وهي متوافرة في هذه الخدمة، كالأجير المشترك الذي يلتزم بتقديم خدمات الإنترنت ويعمل لهم ويضمن، وهذا عقد إجارة جاهزة؛ لعموم قوله تعالى: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)()،
ومقدم خدمة التجارة الإلكترونية أجير ينطبق عليه شرط الأجير المشترك، ويستدل -أيضاً- بقوله تعالى: (إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)()، ومقدم الخدمة الإلكترونية قدم تجارة برضى، ولأن مقدم الخدمة الإلكترونية -في هذه المعاملة التجارة المعاصرة- يقبل أعمالاً لأفراد وجهات متعددة يشتركون في منفعته، فيستحق الأجر مقابل ذلك().
وعند توافر شرط الإجارة يكون ذلك الأجير المشترك ملتزماً وضامناً لكافة الخدمات الإلكترونية التي وقعت في العقد التجاري الإلكتروني.
وأخلاقيات هذه الخدمة تبين مما أكده د. عبد الرحمن بن عبد الله السند الأستاذ المساعد في المعهد العالي للقضاء والمتخصص في الأحكام الفقهية للتعلاملات الإلكترونية أن اختراق البريد الإلكتروني خرق لخصوصية الآخرين وهتك لحرماتهم، وتجسس على معلوماتهم وبياناتهم التي لا يرغبون في أن يطلع عليها الآخرون.
وقال: إن الشريعة الإسلامية نهت عن التجسس والاطلاع على أسرار الناس وهتك حرماتهم؛ لأن الشريعة كفلت الحقوق الشرعية للإنسان وحرمت الاعتداء عليها بغير حق.
إن الله جل جلاله نهى عن التجسس فقال سبحانه: (وَلَا تَجَسَّسُوا)، ونهت الشريعة الإسلامية عن الاطلاع على أسرار الناس وهتك حرماتهم، وهذا موافق لمقاصد الشريعة الإسلامية التي جاءت بحفظ الدين والعرض والمال والنفس والعقل().
المبحث الثالث
خدمة التجارة الإلكترونية
بالبطاقات الائتمانية المصرفية وأخلاقياتها
المقصود بالبطاقات الائتمانية:
البطاقة الائتمانية: بطاقة خاصة يصدرها المصرف لعملية تمكنه من الحصول على السلع والخدمات من محلات وأماكن معينة عند تقديمه لهذه البطاقة، ويقوم البائع بتقديم الفاتورة الموقعة من العميل إلى المصرف المصدر لها فيسدد قيمتها له، ويقدم المصرف للعميل كشفاً شهرياً بإجمالي القيمة؛ لتسديدها أو خصمها من حسابه الجاري لديه().
أما الشق الثاني والائتمان "فهذا الاصطلاح يعني -بوجه عام- منح دائن لمدين مهلة من الوقت يلتزم المدين بانتهائها بدفع قيمة الدين.
وفي الشؤون المالية يعني الائتمان -عادة-: قرضاً أو حساباً على المكشوف، يمنحه البنك لشخص ما، كما يعني حجم الائتمان: المقدار لكل القروض والسلف التي يمنحها النظام المصرفي().
وأصل الائتمان كلمة عربية صحيحة، "هو الثقة التي تشعر الناس أن فلاناً مليء" "وهو التزام يقطعه مصرف لمن يطلب منه أن يجيز له استعمال مال معين؛ نظراً للثقة-التي يشعر بها نحوه"().
والائتمان مصطلح قد يستهجنه من يقف باللغة عند حد النقل ويأبى إلا أن يتمسك بالقديم().
وتتنوع البطاقات الائتمانية إلى أنواع، منها: الفيزا، الماستر كارد، الدايز كلوب، الأمريكان اكسبرس وغيرها().
والتكيف الفقهي لبطاقات الائتمان على أنها: الضمان، والضمان في البطاقة الائتمانية كفالة يصالح فيها الكفيل الدائن على أقل من مبلغ الدين، ثم يرجع على المكفول بما ضمن لا بما أدى().
والكفالة بالدين جائزة، وقد أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة().
ولا يلزم في الكفالة تحديد مبلغ معين، فتجوز الكفالة بالمجهول. جاء في الكافي في فقه() الإمام أحمد: "ويصح ضمان المعلوم والمجهول قبل وجوبه وبعده؛ لقوله تعالى: (وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ) وحمل البعير يختلف.. وقد ضمنه قبل وجوبه".
ويشترط مصدِّر البطاقة، وجودَ الموافقة من حاملها على الدفع (بالتوقيع على القسيمة أو غير ذلك، مما يدل على الرضا)، والغرض من هذه الإجراءات هو التأكد من ثبوت الدَّين في ذمة حامل البطاقة().
وفي مجمع الضمانات() "ويجوز تعليق الكفالة بالشرط، مثل أن يقول: ما بايعت فلاناً فعليَّ، قال: والأصل أنه يصح تعليقها بشرط ملائم، مثل أن يكون شرطاً لوجوب الحق، كقوله: إذا استحق المبيع..".
تكييف عمولة الخدمات الأخرى:
أما بقية المدفوعات: فهي إما مدفوعة من العميل أو من أصحاب البضائع والخدمات، وقد رأينا أن الرسوم والمصاريف المدفوعة من العميل عبارة عن أجر عن خدمات، فهي وكالة بأجر، والخدمات هي: التعريف بالعميل، وتجهيز البطاقة، وإرسال الإشعارات... إلخ. وهناك رسوم وعمولات يدفعها أصحاب البضائع والخدمات لقاء اشتراكهم في الاستفادة من عملاء البطاقة، وهي خدمة سمسرة، أو لقاء الأجهزة المقدمة للمحلات، وهي -أيضاً- خدمة تستحق الأجرة.
تكييف العمولة عن الدفعات النقدية:
هذه العمولة هي نسبة من المدفوعات النقدية التي يحصل عليها حملة البطاقات في أسفارهم بواسطة الأجهزة أو البنوك المتعاملة مع شركة البطاقة، وهي تقتسم بين شركة البطاقة وبين البنوك التي لها إسهام في العملية.
وهناك رأيان شرعيان فيها: أحدهما: منع تقاضي هذه العمولة، لأنها عملية قرض من شركة البطاقة أو من البنك الوكيل، وهذه العمولة مقابل القرض فهي فائدة، وقد ذهبت إلى هذا الرأي الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار، وأوجبت على الشركة حين وصول هذه العمولة إليها أو جزء منها (حيث تقتسم بين الجهات المشاركة في العملية) بأن تقوم شركة الراجحي بتسجيلها للعميل في حسابه، أي تردها إليه. وإذا كانت هذه العمولة تتعلق ببطاقة صادرة من غير شركة الراجحي، فعلى الشركة قيد هذه العمولة في حساب الأعمال الخيرية خروجاً من الشبهة (القرار رقم 50 بتاريخ 6/12/1410هـ).
وفيها عملية المصارفة أيضاً، حيث إن هذه المسحوبات هي لعملات البلاد المختلفة التي تستخدم فيها البطاقة خارج بلد حاملها.
والرأي الشرعي: هو ما جرت عليه هيئة الفتوى والرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي من أن هذه العملية ليست قرضاً إلا في الحالات النادرة ولمدة قصيرة جداً، وإنما هي توصيل لأموال العميل من حسابه إلى المناطق التي يستخدم فيها البطاقة، وهذه العمولة هي أجر لتحويل العملات من بلد إلى بلد. وإن كانت العملية تتم معكوسة لتسهيل الأمر، فإن البنوك الوكيلة لشركة البطاقة تدفع النقود ثم تسترد ما دفعته، لكي تحقق السرعة بل الفورية المطلوبة في هذه العملية. وهناك أجل متخلل بين الدفع والاستيفاء لكنه ليس مقصوداً في العملية ولا هو من صميمها، والشأن في هذا الأجل أن يسبق دفع المبالغ النقدية، لكنه لا يمكن ضبطه؛ لذا عكس الأمر، وتم الدفع ثم الاستيفاء. وهذا الرأي هو الراجح في نظري، فإن الأجل المتخلل بين القبض والتسديد ليس عنصراً أساساً في العملية، ولو أتيح الاستيفاء الفوري (بوسائل الاتصال الحديثة) لما اختلفت العملية القائمة عن أن الدفع هو من حساب العميل وليس تسليفاً له.
ولا يخفى أن في هذه العملية كفالة من البنك الذي يصدر البطاقة نيابة عن شركتها العالمية، فهو يكفل عميله وأداء ما عليه مع حق الرجوع، وهذه الكفالة من نبيل التبرعات، فلا يؤخذ عليها مقابل.
البديل الإسلامي لبطاقة الائتمان وأمثلة تطبيقية على ذلك:
ليس من الضروري أن يكون البديل لما يستبعد من التطبيقات أمراً مغايراً بالذات وجميع الصفات، فإن ما أمكن تعديله لا يتحتم تبديله، على أن الصيغة المعدلة هي نفسها بديل للصورة المشتملة على محاذير شرعية.
ثم إن إيجاد بديل مختلف تماماً عن نظام البطاقات ربما لا يؤدي الغرض النوعي منها، وهو تداولها عالمياً، ووجود أطراف متعددة الجنسيات ترعاها وتكفل استخدامها.
ولذا فإن البديل لبطاقات الائتمان هو الصيغ المعدلة لها، والتي تم تعديلها بمعرفة هيئات شرعية وعسى أن يتمخض عن التداول الجماعي في شأن هذه البطاقات وتعديلها بصيغة تحقق الهدف المادي والغرض المعنوي في تطبيق مقررات الشريعة الإسلامية على جميع التصرفات والممارسات.
فقد عرضت الاتفاقيات المتعلقة ببطاقة الائتمان التي عزم بيت التمويل الكويتي على إصدارها باسم (فيزا التمويل) وأجريت التعديلات الشرعية عليها وعلى شروط البطاقة، وخصوصاً شرط فوائد التأخير، حيث حذف، وربطت البطاقات بحساب العملاء، مع التزام اشتمالها على سداد ما يستخدمون بالبطاقة للشراء: إما مسبقاً، أو عند وصول (الفواتير)، وإذا لوحظ انكشاف الحساب أًشعِرَ العميل لتأمين رصيد لتلك المديونية. ولكن بقي أمر لم تصل الهيئة الشرعية إلى حل له، وهو: حصول حامل البطاقة على ميزة التأمين على الحياة؛ لأنه لا زال محل بحث في المجامع الفقهية، وقد أُوصِيَ بتأمين مزايا أخرى معادلة لذلك إلى أن يوجد الحل الشرعي لذلك. واشتملت عمليات البطاقة على وكالة بأجر، وكفالة مجاناً، وقرض يسير أحياناً.
أما الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار: فقد عرض عليها موضوع إصدار بطاقة ائتمان بمعرفة الشركة (وهي بطاقة فيزا أيضاً) بعد أن حذف منها بند (فوائد التأخير) وأجري تعديل أو تنبيه بشأن الدفعات النقدية بالبطاقة، وكذلك سداد الفواتير وهو: "في حالة عدم وجود تسهيلات للسحب على المكشوف يفوض العميل الشركة أن تخصم من التأمين النقدي أي مبالغ لا يوجد لها مقابل بحسابه الجاري الدائن، على أن يلتزم بتأمين هذا المبلغ في الحال؛ لتكملة مبلغ التأمين المقرر عليه". ويجب أن يكون معلوماً للعميل بأن حصوله على بطاقة فيزا لا يمنحه حق التسهيلات على السلف أو السحب على المكشوف، وأن مثل هذه الامتيازات تعامل كخدمة منفصلة تماماً عن خدمة بطاقة الفيزا، وللحصول عليها يمكنه التقدم بطلب للفرع المعني، حسب النظام المتبع لدى الشركة في هذا الخصوص.
ولما عرضت الشروط على الهيئة الشرعية أصدرت قرارها رقم 32 بتاريخ 26/10/1410هـ، ونصه: "لم يظهر للهيئة -من الناحية الشرعية- ما يوجب الاعتراض على قيام شركة الراجحي بإصدار بطاقة فيزا، بشرط ألا يترتب على قيامها بذلك أخذ أو إعطاء أي فائدة محرمة بشكل ظاهر أو مستتر، سواء أتم ذلك مع عملائها أم مع شركة فيزا العالمية، أو شركة الخدمات المالية العربية التي ستقوم بالوساطة الفنية أو الحسابية بين شركة الراجحي المصرفية للاستثمار وشركة فيزا العالمية أو غيرهم من أطراف المعاملة.
أما كون فوائد التأخير محرمة: فهو محل اتفاق، وهو من ربا الجاهلية، وهو ما يدعى قاعدة (زدني أنظرك).. والله أعلم().
وتظهر أخلاقيات خدمات التجارات الإلكترونية في شتى المعاملات في أمور، منها: أن المعاملات المالية في البنوك الإسلامية هي من أهداف البنك الإسلامي الذي يوجه مدخراته للاستثمار في خطط التنمية عن طريق المساهمة في أموال حقيقية، وليس عن طريق (خلق) ائتمان من دون إضافة لكمية النقود التي يجري عليها العمل في البنوك الإسلامية والأساليب والوسائل المختلفة للتوظيف والاستثمار فيها ومن أهمها: التمويل بالمشاركة، المضاربة الشرعية، البيع بالمرابحة...
ومن التعامل في الأسواق الخارجية، يتبين أن ذلك يتم عن طريق الشراء الحالي، وأخذ مراكز في هذه الأسواق تتم تصفيتها إما عن طريق الاستلام للبضائع وبيعها للغير بضاعة حاضرة، أو بيعها -عند تمام الشراء- بأجل بشرط حيازة البنك للبضائع فعلا.
أما بالنسبة للتعامل في المعادن مثل الذهب أو الفضة: فإن ذلك يتم بالشراء ودفع كامل القيمة دون سداد جزئي (مارج)، وبحصول البنك على إثبات ملكيته للذهب أو الفضة يمكنه البيع بالأجل، أو يبيع عن طريق عقد وعد بالشراء من العميل ووعد بالبيع من البنك، ويتم سداد قيمة البيع عند حلول الأجل بالكامل، وتتم هذه العمليات في الأسواق العالمية عن طريق مراكز التعامل في الذهب والفضة.
والأسس المحاسبية والمصرفية والشرعية في احتساب عائد حساب الاستثمار التي يتم على أساسها إعداد الميزانية وحساب الأرباح والخسائر والتوزيع في البنوك الإسلامية، تؤكد أن العلاقة بين البنك الإسلامي وأصحاب حسابات الاستثمار لا تدور على أساس علاقة الدائن والمدين، ولكنها تدور على أساس المشاركة بين الطرفين في إطار المضاربة الشرعية، وما يرزق الله به من ربح يكون بينهما بالنسبة التي يحددها طرفا المضاربة. أما الخسارة: فإنها على رب المال، ما لم يثبت أن المضارب (الشريك بعمله) قصر أو خالف ما شرطه رب المال، فإنه يضمن الخسارة حينئذ.
وبالنظر إلى التطبيقات المعاصرة للبطاقة الائتمانية وخدماتها في المعاملات الإلكترونية نجد أنها تؤدي عملاً وسيطاً مهماً في الاقتصاد المعاصر، ولكن ينبغي أن يؤخذ بالجوانب الشرعية أثناء التطبيق، إضافة إلى أخلاقيات التاجر الصدوق والأمين؛ حتى يجني ثمارها وفق منهج إسلامي رشيد().
المبحث الرابع
خدمة التجارة الإلكترونية
بالاعتمادات المستندية وأخلاقياتها
وفيه مطلبان:
المطلب الأول
خدمة الاعتمادات المستندية تعريفها وأنواعها
الاعتماد مأخوذ من اعتمد الشيء، بمعنى اتكأ، ويقال: اعتمد الأمر وافق عليه، وأمر بإنفاذه، والاعتماد يستعمل بمعنى الائتمان أو التسهيل أو الضمان.
والمستند مأخوذ من السند، فيقال: سند إليه، ركن إليه، واعتمد عليه، واتكأ.
وهو عبارة عن وثيقة يوجهها مصرف إلى أحد مراسليه في الخارج يدعوه فيها إلى أن يدفع مبلغاً معيناً من النقود، أو يمنح قرضاً، أو يفتح اعتماداً للمستفيد.
وتقسم الاعتمادات إلى أقسام بأوضاع مختلفة، فمنها: اعتمادات التصدير والاستيراد، والاعتماد القطعي والقابل للإلغاء، والاعتماد المستندي بالاطلاع أو القبول().
المطلب الثاني
التكييف الفقهي لخدمة الاعتمادات المستندية وأخلاقياتها
إن فتح الاعتماد فيه خدمة يؤديها المصرف المحلي للطالب وكفالة له تجاه المصرف الأجنبي، الذي يقوم هو بأداء ثمن البضاعة المستوردة للمنتج البائع، بناء على كفالة المصرف الأول. والرأي الشرعي فيه -فيما يبدو- أنه إذا اقتصر فيه على أخذ المصرف الأول عمولة يتفق عليها، سواء أكان مقدارها نسبياً أم مقطوعاً، من دون أن تحتسب فيه فوائد على الطالب. فهي عملية جائزة شرعاً.
أما بالصورة المشروحة التي تتم بها اليوم: فإنها في المرحلة التي يصبح فيها المصرف دائناً للطالب بما تمت تأديته عنه فعلاً، ويرتب المصرف فائدة جارية عليه، هذه المرحلة فيها بداخلها -عندئذ- قرض بفائدة، فتصبح من هذه الناحية حراماً.
والموسوعة الفقهية الكويتية في الجزء النموذجي الثالث (243 - 246) قد ارتأت جواز فتح الاعتمادات المستندية من أعمال المصارف، تخريجاً على أساس أنه توكيل ورهن: أي توكيل من طالب فتح الاعتماد للمصرف ورهن البضاعة لديه، أو على أساس أنه توكيل وحوالة: المحيل فيها طالب فتح الاعتماد، والمحال عليه هو المصرف فاتح الاعتماد، أو على أساس أن فتح الاعتماد عقد جديد مستحدث لا نظير له في العقود القديمة، ولا مانع منه شرعا. لكن الموسوعة افترضت العملية في صورتها البسيطة، حيث يدفع التاجر -طالب فتح الاعتماد- جميع ثمن البضاعة إلى المصرف الأول -الوسيط المحلي- مقدماً، أو في الحالة التي يقبل فيها المنتج -البائع- في بلد المصدر كفالة المصرف ويشحن البضاعة قبل أن يقبض ثمنها، ثم بعد وصول وثيقة الشحن إلى المصرف الكفيل في بلد الاستيراد، يؤدي التاجر الطالب الثمنَ كاملاً، عن طريق المصرف، ويتسلم وثيقة الشحن، ولا شك -عندئذ- في جواز العملية بجميع مراحلها.
ما يدخل في المرابحة الخارجية:
بحسب طريقة المرابحة الخارجية مع الآمر بالشراء، يحدد التاجر مطلوبه الاستيرادي والمصدر، ويطلب من البنك الإسلامي استيراد البضاعة لنفسه باسمه هو (أي البنك)، ويتفق الطالب معه على أن يشتريها منه بعد وصولها بربح معين، وقد تم تخريج هذه الطريق -فقهياً- على أساسين من مذهبين:
* الأساس الأول: قاعدة الوعد الملزم عند المالكية.
*الأساس الثاني: نص الإمام الشافعي رضي الله عنه في ألامِّ على جواز أن يقول الرجل لآخر اشتر هذا الشيء من صاحبه، وبعه مني بربح كذا (ينظر كتاب الدكتور سامي حمود: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية ص/480 الطبعة الأولى). و (نظام البنك الإسلامي الأردني وأنواع معاملاته - بند المرابحة الخارجية).
وقد أقرت هذا النظام لجنة الفتوى الشرعية بوزارة الأوقاف والمقدسات والشؤون الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية، وطريقة المرابحة الداخلية والخارجية فيه. وهي - فيما أرى - طريقة سليمة بالنظر الإسلامي لا شائبة فيها، وتحل مشكلة فتح الاعتمادات بحسب القواعد الفقهية، مستفيدة من المذاهب الفقهية المعتمدة التي في اختلاف الأنظار بين أئمتها وأتباعها سعة شرعيه ورحمه().
إنه بالنسبة للاعتمادات المستندية بالذات، وهي التي ترد المطالبات عليها بشكل مؤكد غالباً، فإن مجموع قيم وثائق الشحن غير المسددة تتوازى غالباً مع مجموع التأمينات المودعة من العملاء، ومعنى هذا أن العملاء يغذون موارد استدانتهم بأموالهم بصورة تلقائية().
وقد أجازت اللجنة الفقهية في الموسوعة الفقهية الكويتية جواز فتح الاعتمادات المستندية على أنها من أعمال المصارف، حيث إنها من التوكيلات والرهون أو إنها توكيل وحواله، أو عقد جديد مستحدث لا نظير له في العقود الفقهية القديمة، ولا مانع منه شرعا().
الفصل الثالث
حقوق الملكية الفكرية وحماية المستهلك وأخلاقياتها
وفيه مبحثان:
المبحث الأول
حقوق الملكية الفكرية وأخلاقياتها وتكييفها الفقهي
وفيه مطالب:
المطلب الأول
المراد بحقوق الملكية الفكرية ومشتملاتها وأخلاقياتها
حقوق الملكية الفكرية في لسان أهل اللغة:
الحقوق: جمع حق، والحق: خلاف الباطل، وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وفي الاصطلاح: هو الحكم المطابق للواقع..
ومن ذلك: حقوق الاتفاق والاختصاص والملك().
وفي الأصول التجارية والمالية والمعنوية: ما يتعلق بالملكية الأدبية، مما له قيمة في الشرع، بيعاً وشراء وتجارة، ومن ذلك: ما يتحقق في العرف الإلكتروني المعاصر بشتى صوره، كما يطلق عليها الملكية الفكرية().
والملكية في اللغة: مأخوذة من الفعل ملك يملك تملكاً وملكاً والمعنى: احتواء الشيء، والقدرة عليه، والاستبداد به، والتصرف به().
وفي الاصطلاح الفقهي: قدرة يثبتها الشارع ابتداء على التصرف، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تعريفاً للملك فقال: (الملك هو القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة)().
وهذا تعريف جامع ومانع، فهو جامع لماهية الملكية من حيث الابتداء في الحيازة والاحتواء، لأن القدرة الشرعية جامعة للتصرفات الشرعية().
والإنتاج الفكري: هو الصور الفكرية التي تفتقت عنها الملكة الراسخة في نفس العالم أو الأديب ونحوه، مما يكون قد أبدعه هو، ولم يسبقه إليه أحد.
والصور الفكرية المبتكرة أثر للملكة الراسخة، وليست عينها، بل فرع عنها وناتجة منها، وهذا ملحظ دقيق تجب مراعاته في الاجتهاد وفي تأصيل الأحكام().
والملكية الفكرية تشمل الحقوق المتعلقة بالمصنفات الأدبية والفنية والعلمية، والعلامات التجارية، وعلامات الخدمة، والأسماء والسمات التجارية والأسرار التجارية، والاكتشافات العلمية وبراءات الاختراع في جميع مجالات الاجتهاد الإنساني والرسوم والنماذج الصناعية.
أخلاقيات الحقوق الفكرية:
يشترط في النتاج الفكري أن يكون على قدر من الابتكار، فالإنتاج المبتكر لا يشترط فيه أن يكون متسماً كله بالابتكار والإبداع، بل يكفي فيه أن ينطوي على قدر من التجديد، وألَّا يكون تكراراً، ولا محاكاة لصور أخرى سابقة، إذ لا بد في كل مبتكر ذهني من أن يكون مؤصلاً على ثقافة ساهم في تكوينها ابتكارات سابقة، وتراث علمي، فيختلف الابتكار -نوعية وأثراً- بمدى القدر المحدث فيه وجودته، ومبلغ الجهد المبذول ومستواه، فالابتكار نسبي لا مطلق.
ويشترط في النتاج الفكري -ليكون جديراً بالحماية- أن يكون على قدر من الابتكار، وليس مبتكراً().
ويشترط - أيضاً - في النتاج الفكري ليكون جديراً بالحماية أن يكون في مجال العلوم النافعة، إذ أن الإسلام، - وهو يقرر أن العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة -، يقرر - في الوقت ذاته - نوعية العلم الذي يجب إعمال الذهن في تحصيله وابتكاره، وذلك بأن يكون نافعاً، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً)()، واستعاذ عليه الصلاة والسلام من علم لا ينفع، ففي الحديث: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع(). ومن ذلك: الحقوق الفكرية في التجارة الإلكترونية.
المطلب الثاني
التكييف الفقهي لحقوق الملكية الفكرية
والتكييف الفقهي للإنتاج الذهني المبتكر: أنه أقرب شبهاً بالثمرة المنفصلة عن أصلها، إذ الإنتاج المبتكر ينفصل عن صاحبه ليستقر في كتاب أو نحوه فيصبح له بذلك كيان مستقل وأثر ظاهر. مما يؤكد كون الإنتاج الفكري - في نظر الإسلام - من قبيل المنافع.
وبالنظر في آراء الفقهاء في الحقوق الذهنية والمعنوية والفكرية فإنه -نتيجة لتطور الحياة الاقتصادية والمدنية والثقافية الحديثة - ظهر ما يسمى بالحقوق المعنوية، فهل محل هذه الحقوق داخل في مسمى المال في الشريعة الإسلامية؟ اختلف الفقهاء في ذلك.
ويبدو لي أن جمهور الفقهاء: المالكية والشافعية والحنابلة -: الذين لا يشترطون أن يكون محل الملك شيئاً مادياً معيناً بذاته في الوجود الخارجي، بل هو كل ما يدخل في معنى المال من أعيان ومنافع، ومعياره أن يكون له قيمة بين الناس، ويباح الانتفاع به شرعاً - يذهبون إلى أن هذه الحقوق تُعَدُّ حقاً مالياً متقوماً في ذاته، كالأعيان سواء بسواء، وتأسيساً على ذلك ترد عليه العقود الناقلة للملكية، ويضمن بالغصب، بمعنى أنه تقرر مسؤولية غاصب مصادره ومطالبته بالتعويض، ويجري فيه الإرث على الجملة().
وفي الحديث: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(). فالعلم عمل، وهو مصدر للمنفعة شرعاً، يبقى أثراً خالداً بعد وفاة صاحبه. والعلوم الإلكترونية في التجارات داخلة في ذلك.
ففي الحديث: دلالة على أن العلم مصدر الانتفاع، وأن الانتفاع المستمر بإنتاج العالم، يكون استمراراً لعمله الصالح الذي لا ينقطع بالموت، فالعلم هو مصدر للمنفعة شرعاً، يبقى أثراً خالداً بعد وفاة صاحبه، وانهدام ملكته العلمية بالموت().
والمال: ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة، ويُستنتج منه أن المنظور إليه في مالية الأشياء وليس هو عينية الشيء المادي، بل منفعته وأثره، فإن ما لا منفعة فيه، ليس بمال، أي ولو كان شيئاً عينياً، فمناط المالية - إذن- هو المنفعة لا العينية.
فالقيمة - إذن - منوطة بالمنفعة التي هي أصلها ومستندها، والمنفعة أمر معنوي، فحيث تكون المنفعة تكون القيمة، أي تكون المالية، بل المنفعة هي معيار للقيمة ومقدارها.
المبحث الثاني
حماية المستهلك وأخلاقيات التعامل فيه
لقد اشتملت كتب الفقه الإسلامي على أخلاقيات التعامل التجاري وحماية المستهلك، ورتبت عليها أحكاماً شرعية وعقوبات في الدنيا والآخرة.
فمن أهمية حماية المستهلك والتعامل معه: ما ذكره الغزالي: "فالقيام بحقوق الله مع المخالطة والمعاملة مجاهدة، لا يقوم بها إلا الصديقون، وسلوك طريق الحق هذا في التجارة أشد من المواظبة على نوافل العبادات والتخلي لها"().
ولكن هل هناك من منهج يجعل تحقيق ذلك في دنيا التجارة أمراً ممكناً وواقعاً قائماً؟ نعم: والمنهج يرتكز على دعامة نفسية ودعامة موضوعية عملية.
يقول الغزالي: "ولن يتيسر ذلك على العبد إلا بأن يعتقد أمرين: أحدهما أن تلبيسه العيوب وترويجه السلع لا يزيد في رزقه، بل يمحقه ويذهب ببركته، وما يجمعه من مفرقات التلبيسات يهلكه الله دفعة واحدة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "البيعان إذا صدقا ونصحا بورك لهما في بيعهما، وإذا كتما وكذبا نزعت بركة بيعهما"().
وعن أهمية الصدق في سعر الوقت أثناء التجارة: يذكر الغزالي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في النهي عن تلقي الر كبان، وعن النجش، وعن بيع حاضر لباد، يبين أنه لا يجوز للمتعامل - بائعاً كان أو مشترياً - أن يكذب في سعر السوق، قائلاً: "ومن قنع بربح قليل كثرت معاملاته، واستفاد من تكررها ربحاً كثيراً"().
وقد نبه الغزالي على أهمية المسامحة في استيفاء الثمن وسائر الديون وبين وجه الإحسان في ذلك من منع الخصومات، ومنح الإمهال والتأخير. بعيداً عن الاحتكار بما يجلبه من مضار، بعيداً عن الإعلان والترويج غير الصالح، بعيداً عن سائر وجوه الغش، بعيداً عن المغالاة في الأرباح، يسلك كل من المشتري والبائع سلوكاً عقلياً رشيداً، يتحلى بوجود الائتمان والمسامحات، بحيث تشيع المعرفة الحقيقية بأحوال السلع والأسعار، للسلع الضرورية بما يحقق مكانة خاصة من الرعاية والاهتمام. لا مجال فيها لمحلات تتعامل في المحرمات، وعلى المحتسب أن يمنع من كل تلك الانحرافات().
ومن صور الحماية للمستهلك - كما ورد في عبارات الفقهاء -: العبرة بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، ومن ذلك اشتراط الرضى في العقود، وتحريم الغش والغبن والظلم.
والعقود المذكورة في كتب الفقه، ليست هي العقود الجائزة حصراً؟ لأن ثمة قاعدة فقهية هامة، وهى [أن العبادات مبناها على التوقيف]، فلا بعبد الله إلا بما شرع، وأما المعاملات: فالأصل فيها الحل، ما لم يرد نص على تحريمها().
وقد أكد الدمشقي على ضرورة أن تتم عملية البيع في الوقت المناسب وأن تؤخذ توقعات المستقبل في الحسبان. وفي هذا الصدد ينقل عن الخليفة المأمون موقفاً اقتصادياً، فقد أمر بالإسراع ببيع غلات بيت المال عندما توقع لها المزيد من الانخفاض في أسعارها في الأيام المقبلة؛ لوفرة إنتاجها().
وأكد الدمشقي على أن التوكيلات التجارية وبعض الأعمال التجارية لاسيما عمليات التصدير والاستيراد تتطلب وجود ما نسميه اليوم بالوكالات التجارية. ويجب على الركَّاض - المستورد - إذا دخل بلدة لم يعرفها أن يكون قد تقصى عن الوكيل المأمون().
واعلم يا أخي، أن من أعظم المباديء والقواعد في تنظيم التجارة على مستوى الأفراد أو الدول أن تقوم على الشفافية الكاملة، وبقدر الالتزام بهذا المبدأ في التجارة توصف بأنها ناجحة أو غير ذلك، كما توصف الأمة بالتقدم والتحضر في هذا المجال أو غير ذلك.
كذلك يجب إصلاح أجهزة الضبطية العدلية؛ لاستئصال الفساد الداخلي وزيادة احترام كرامة الإنسان، وهناك - أيضاً - مجال الإصلاح الأخلاقي، ووضع قواعد مسلكية لمسؤولي الحكومة وقواعد التصريح عن الوضع المالي قبل تسلم هؤلاء مهام مناصبهم().
وفي حماية المستهلك وأخلاقيات التعامل بيّن الشيخ محمد حسنين مخلوف - في فتاوى شرعية - أنه يجب على البائع أن يبين للمشتري ما في السلعة التي يريد شراءها من العيوب إذا كان بها عيوب، وكتمانها عنه غش وخداع وتلبيس، وهو محرم بالإجماع().
وعن إقامة المعاملات الائتمانية والإلكترونية في البنوك وحماية أصحابها جاء عن الشيخ مخلوف() أيضا: أنإتحويل المرتبات إلى المصرف في الحساب الجاري من دون أخذ فائدة ربوية نتيجة تعاقد بين المودع والمصرف على إيداع هذه المبالغ أمانة لديه، - ومن شأنها ألا توظف في معاملاته الربوية، - فلا يعدُّ المودع بذلك مساهما في المصرف، لأن وديعته أمانة كسائر الأمانات، وليست من رأس مال المصرف الذي يجري فيه التعامل بالربا المحرم مع آخرين.
وهو بمثابة أن يودع الإنسان مالاً على سبيل ألأمانة عند تاجر يتعامل حلالاً مع قوم، وبالربا مع آخرين، فإيداع المال عنده شيء، وتعامله هو بالربا مع عملائه شيء آخر. وكذلك إيداع الأمانات من غير المساهمين في المصرف، غير توظيف أموال المساهمين بالربا المحرم، والأول جائز، والثاني محرم.
وعن حكم تحويل النقود عن طريق البنوك: أفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - مفتي السعودية - فقال: إذا دعت الضرورة إلى التحويل عن طريق البنوك الربوية فلا حرج في ذلك إن شاء الله؛ لقول الله سبحانه: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) الأنعام (119).
ولا شك أن التحويل عن طريقها من الضرورات العامة في هذا العصر وهكذا الإيداع فيها للضرورة من دون اشتراط الفائدة، فإن دفعت إليه الفائدة من دون شرط ولا اتفاق فلا بأس بأخذها وصرفها في المشاريع الخيرية مساعدة الفقراء والغرماء ونحو ذلك، لا ليتملكها أو ينتفع بها، بل هي في حكم المال الذي يضر تركه بالمسلمين، مع كونه من مكسب غير جائز، فصرفه فيما ينفع المسلمين أولى من تركه للكفار يستعينون به على ما حرم الله، فإن أمكن التحويل عن طريق البنوك الإسلامية أو من طرق مباحة لم يجز التحويل عن طريق البنوك الربوية، وهكذا الإيداع إذا تيسر في بنوك إسلامية أو متاجر إسلامية لم يجز الإيداع في البنوك الربوية؛ لزوال الضرورة. والله ولي التوفيق().
الفصل الرابع
حماية التجارة الإلكترونية
وفيه مبحثان
المبحث الأول
حماية التجارة الإلكترونية في الشريعة الإسلامية
لقد حمت الشريعة الإسلامية المعاملات التجارية من كل أنواع التدليس والكذب والغش، وحرمت كافة أنواع غسيل الأموال التجارية، وأوجبت وسائل السلامة في التعامل التجاري؛ حتى يكسب المال حلالاً - وهي أسس شرعية ينبغي أن يتحلى بها التاجر، وأوجبت طلب الإذن من صاحب العمل التجاري، والالتزام بالأمانة، والابتعاد عن الغش؛ للحديث "من غشنا فليس منا"، وضرورة التحلي بالأخلاق الحميدة المنبثقة من العقيدة الإسلامية، وضرورة ارتباط النية في البيع، والنزاهة والصدق والوفاء بالعقود التجارية، والابتعاد عن اليمين المنفقة للسلعة، والالتزام بالشروط العقدية().
ولا شك أن نظرية العرض والطلب وعدم احتكار السلع أو الغش فيها أو غصبها أو سرقتها وتحري الجلب الصحيح والإنتاجية المباحة - تحقيقاً للمصلحة وإنعاشاً للسوق - من أولويات الأخلاق الفاضلة- للتاجر المسلم()، كما أن سد الذرائع لمنع الأضرار والمفاسد التجارية مطلب مهم في العملية التجارية، وهي قواعد معدودة في الشرع الحنيف، وقد ورد النهي عن الضرر بشتى صوره وتحريم استعماله - استعمالاً مباشراً أو نسبياً، - ومن صور الضرر: الاحتكار، أو الدخول إلى مواقع إلكترونية والنسخ منها بغير إذن()، أو البيع من دون موجب شرعي ويجب التحلي بالخلق النبيل، والالتزام بالعلامة التجارية الواضحة والاحتفاظ بملكيتها وتميزها عن المحل التجاري واستغلاله بوجه مشروع في التجارة الإلكترونية والبعد عن أساليب الحيل والخداع؛ وذلك حفاظاً على حقوق الأخوين من السرقات وإضاعة أموالهم بطرق غير مشروعة().
ومن واجبات التجارة الإلكترونية في الشريعة الإسلامية: ترك الشبهات، والإعلانات الكاذبة، والصدق، والتبكير في التجارة، بالإضافة إلى السماحة في المعاملة، والتحلي بمعالي الأخلاق، وترك المشاحنة والتضييق على الناس، ووجوب دفع الزكاة المشروعة في سائر الأعمال التجارية وعروضها().
وقد تجلت صور حماية الشريعة للمعاملات الإلكترونية بما نصت عليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية في فتواها رقم (18453) في 2/1/1417هـ التي بينت فيها عدم جواز نسخ البرامج الحاسوبية التي يمنع أصحابها نسخها إلا بإذنهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم"()، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امريء، مسلم إلا بطيبة عن نفسه"() وقوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلي مباح فهو أحق به"() سواء كان صاحب هذا البرنامج مسلماً أم كافراً غير حربي، لأن حق الكافر غير الحربي محترم كحق المسلم()، ومعاملاته الإلكترونية - على وفق ما يسمى في الوقت المعاصر بالحقوق المعنوية - مصونة شرعاً. وقُرر ما يأتي:
"أولاً: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار: هي حقوق خاصة لأصحابها، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معدودة؛ لتمول الناس لها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً، فلا يجوز الاعتداء عليها.
ثانياً: يجوز التصرف في الاسم التجاري، أو العنوان التجاري، أو العلامة التجارية، ونقل أي منها بعوض مالي، إذا انتفى الغرر والتدليس والغش، باحتساب أن ذلك أصبح حقاً مالياً.
ثالثاً: حقوق التأليف، والاختراع أو الابتكار مصونة شرعاً، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها. والله أعلم().
ومن صور حماية الشريعة الإسلامية للتجارة الإلكترونية: إيقاع عقوبة حد السرقة بشروطها، أو التعزيز لمن يشرع أو يرتكب اختلاس الأموال بالطريقة الإلكترونية، أو أخذ وسائل إلكترونية للغير - كالبطاقات الائتمانية - أو تزوير التوقيع الإلكتروني فيها. كل ذلك محرم في الشريعة الإسلامية() ويستحق مرتكبه العقاب الشرعي - كما تقرر سابقاً -؛ لحرمة الأموال شرعاً، وقد يصدر بحق من فعل ذلك بطريقة منظمة تنفيذ حد الحرابة وبخاصة جرائم الإنترنت: كالتخريب، أو إزالة للمواقع، أو السرقة والانتهاب، أو الإخافة، أو الترويع().
وفي ذلك بيان شاف لمدى تقديم معالجات الشريعة الإسلامية لكل النوازل المعاصرة، وإعطاء الحلول المناسبة على وفق كل عصر ومجتمع، وهي سمة اتسمت بها هذه الشريعة في مقاصدها الشرعية الهادفة.
المبحث الثاني
حماية التجارة الإلكترونية في النظم الوضعية
التجارة الإلكترونية بالمملكة العربية السعودية، مهمة جداً، وادراكاً من المسؤولين لأهمية هذه التقنية الحديثة، وأثرها الإيجابي على تطوير وتنمية الاقتصاد السعودي، فقد تم تشكيل لجنة دائمة برئاسة وزارة التجارة، مهمتها دراسة واقع التجارة الإلكترونية وإمكانات المملكة، ولا شك أن تطور الخدمات المصرفية وتقنيات الدفع التي قامت بها مؤسسة النقد العربي السعودي سيكون لها تأثير إيجابي على تفعيل الأمور وإنشاء البنية التحتية الملائمة، وفي نفس اتجاه تفعيل التجارة الإلكترونية أكدت بعض البنوك السعودية التزامها بتعويض العملاء الذين تتعرض حساباتهم للاختراق والتلاعب، ويتم إجراء عمليات مصرفية عن طريق مواقعها في الإنترنت.
وتأتي هذه الخطوة من البنوك السعودية في الوقت الذي يحجم فيه عدد من العملاء عن استعمال مواقع البنوك في الإنترنت، إذ لا يشكل عدد العملاء الذين يجرون عمليات مصرفية عن طريق الشبكة سوى 1 - 5 % بين كل المشتركين.
ويتوقع بعض المشتركين السعوديين أن تساهم الحماية الجيدة التي تضعها البنوك في مواقعها والتزامها بتحمل كامل ما يترتب من اختراق أو تلاعب بحسابات في رفع نسبة التعامل في التجارة الإلكترونية. وتهيّئ التجهيزات الأساسية للاتصالات - بالإضافة إلى التركيبة السكانية المؤهلة للتدريب في مجال المعلومات والاتصالات - أهم ما يمكن استثماره لتحقيق موقع ريادي للمملكة في مجال التجارة الإلكترونية().
وفي مجال حماية الحقوق المعنوية -كالتأليف أو الاسم التجاري أو العلامة التجارية ونحوها من المخالفات- نصت المادة الحادية والعشرون من نظام حماية حقوق المؤلف السعودي: على عدِّ التصرفات الآتية تعدياً على الحقوق التي يحميها النظام:
إزالة أي معلومة كتابية وإلكترونية قد تتسبب في إسقاط حقوق أصحاب المصنف.
إزالة وفك أي معلومة احترازية إلكترونية. تضمن استخدام النسخ الأصلية للمصنف مثل التشفير أو المعلومات المدونة بالليزر وغيره.
الاستخدام التجاري للمصنفات الفكرية بطرق التحايل.
الاحتفاظ بمصنفات غير أصلية في النشأة التجارية أو المستودع.
الاعتداء على أي حق من الحقوق المحمية.
ثم نصت العقوبات على الإنذار وغرامة تصل إلى مائتين وخمسين ألف ريال، أو إغلاق المحل التجاري أو السجن().
وفي مشروع نظام المبادلات() الإلكترونية والتجارة الإلكترونية نصت المادة (20) من مشروع النظام على أنه يعد مرتكباً جناية أي شخص يدخل عن عمد منظومة حاسوب أو جزءاً منها دون وجه حق، وذلك بالتعدي على إجراءات الأمن، من أجل ارتكاب عمل يعد جناية بحسب الأنظمة المرعية وبحسب ما تحدثه اللائحة التنفيذية.
وفي المادة (23) التجريم: إلحاق الضرر بالبيانات الحاسوبية بالمسح أو التحوير أو الكتمان.
وفي قرار مجلس الوزراء السعودي رقم 163 في 24/10/1417هـ
والذي ينص على إصدار الضوابط المنظمة لاستخدام شبكة الإنترنت والاشتراك فيها، ومنها:
الامتناع عن استخدام الشبكة لأغراض غير مشروعة، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: الرذيلة والقمار، أو القيام بأي نشاطات تخالف القيم الاجتماعية والثقافية والسياسية والإعلامية والاقتصادية والدينية للمملكة العربية السعودية.
الامتناع عن الدخول إلى حسابات الغير، أو محاولة استخدامها من دون تصريح.
الامتناع عن اشتراك الغير في حسابات الاستخدام، أو إطلاعه على الرقم السري للمستخدم().
وعلى مستوى دول العالم حيث سنت أنظمة حماية للتجارة الإلكترونية() في ماليزيا، وإصدار عقوبات رادعة للمخالفين، حيث صدر نظام عام 1997م ينص إلى أن الوصول غير الشرعي إلى الحاسب الآلي والدخول بنية التخريب أو التعديل غير المسموح به، تتراوح عقوبته بين غرامات مالية تصل إلى (150.000) دولار ماليزي، مع السجن مدة تقدر بعشر سنين وقد طبقة أنظمة() بريطانيا على جرائم إلكترونية عقوبة السجن مدة سنتين ضد أحد قراصنة الإنترنت والتجارة العالمية عندما أرسل فيروسات لحاسبات في العالم، واسمه (فالور)، حيث وزع فيروسات خلال الفترة من ديسمبر - 2001 م إلى يناير 2002م.
وفي مجال العقود التجارية الإلكترونية فتحت المحاكم التجارية في قانون المرافعات المصري م30/2 والنظام الفرنسي م46/2 حيث عدت عقود التجارة الإلكترونية عبر شبكة الإنترنت عقوداً بين حاضرين في الزمان وغائبين في المكان، والعبرة فيه بالقبول، ما لم يتفق طرفي العقد أو يوجد نص يقضي بغير ذلك م97، مدني مصري().
وعن حجية التوقيع الإلكتروني نص النظام الفرنسي والأمريكي والمصري على عده قوة بديلة تنوب عن التوقيع التقليدي، وأنه يدل على شخصية صاحبه()، وأن الدخول غير المشروع لمواقع التجارة الإلكترونية أو إفشاء البيانات الرسمية للتاجر، أو التزوير في مجال الائتمان الإلكتروني (بطاقات وأرقام) أو إعاقة الأعمال التجارية، والخيانة أو السرقة والقرصنة والنصب كلها تعد أعمالاً إجرامية جنائية يعاقب عليها القانون، والشرع الحنيف().
ويجب تحري الأمانة والدقة في المعاملات الإلكترونية وعدم الإخلال أو الغش في البيع بنظام بطاقات الدفع الإلكتروني وضرورة الاهتمام بالسرية التامة للتوقيع الإلكتروني وبخاصة مع ظهور التلاعب في بطاقات الائتمان عن طريق شبكة الإنترنت؛ لأن التجارة الإلكترونية عملية تعتمد على نظام معلومات متكامل من حيث الدعاية والتسويق والإعلان والمفاوضات وإبرام العقد وتنفيذه والحصول على المقابل المالي، وأن عملية الوفاء الإليكترونية إحدى حلقات التجارة عن بعد، أو التجارة الإليكترونية التي تعتمد على شبكة الإنترنت وتعدها عاملاً حاسماً في إتمام صفقاتها().
وهي صفة مهمة في أخلاقياتها وعدم الغش التجاري في السلع المعروضة، ووجوب وضوح البيانات الإعلانية للمستهلك، ولحمايته من وسائل الغش المعاصرة، وذلك بحفظ أسراره وخصوصياته، وتحديدها في عقده التجاري؛ حتى لا يكون ضحية للقرصنة أو السرقة من قبل الغير، وهذا ما نصت عليه الأنظمة الأوروبية لعام 1997م()، ونصت عليه المواد (38-42/الصادر في عام 2000م في المشرع التونسي ضمن حماية المعطيات الشخصية التي تعتمد على الإعلام الإليكتروني() الذي يسمى بالحق الإعلامي أو الحق الشخصي في الفقه المدني، أو الحق المعنوي في الفقه الإسلامي، وهو حق معترف به شرعاً وعرفاً ونظاماً().
وعن القواعد القانونية العقدية في مجال التجارة الإلكترونية التي وضعتها لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي في دورتها الرابعة والثلاثين خلال الفترة من 24-29 يونيو 1990م والخاصة بسندات الشحن الإلكترونية لتبادل المعطيات والمعلوماتية بين الأطراف الأعضاء في شبكة الإنترنت وإبرام عقد أو اتفاق بينهم عندما يرغبون في إبرام صفقات تجارية من خلال وسائل الإنترنت الإلكتروني، وهو ما تضمنته قوانين التعاقد عبر الإنترنت في فرنسا بدءاً من عام 1998م().
كما اهتم القانون النموذجي للأمم المتحدة حول التجارة الإلكترونية الصادر عام 1996م حول الاعتراف بالرسائل والمعطيات الإلكترونية والكتابة والتوقيع وأصل النسخة وإمكانات قبول المستند وقوته القاطعة في الإثبات وتبادل وسائل المعطيات الإلكترونية من حيث الراسل والمرسل إليه، والإيصال والاستلام، وحماية المستهلك الدولي والداخلي، من حيث السلع والخدمات والاستهلاك في شتى المجالات الإلكترونية().
ولا شك أن سن مثل تلك الأنظمة لحماية التجارة الإلكترونية - عبر الحاسوب - لها ثمارها الاقتصادية والاجتماعية، منها: إتمام المعاملات المالية بسرعة وإتقان، والحصول على المتطلبات بسرعة، وإمكان تسديد المديونات المالية بدقة، وانتعاش التجارة، وانخفاض التكلفة المالية وسهولة الانتقال في الأسواق العالمية وبكل ثقة وأمان وإمكان تداول النقود إلكترونياً، بعيداً عن الاختلاس، وهو ما يؤمنه التوقيع الإلكتروني والبطاقة الائتمانية، بالإضافة إلى الاطمئنان على الأرباح من تحقق وتطبيق أنظمة التجارة الإلكترونية وبحماية تامة().
وبمناقشة تلك الأنظمة نجد أنها لا تتعارض ومنهج الشريعة الإسلامية جلباً للنفع ودفعاً للضرر وتحقيقاً للمصالح المشروعة، وانتفاء للمفاسد. ولكن بضوابط وقواعد وأسس وفروع فقهية يحتاج إليها الناس في كل مكان وعصر والله أعلم.
الخاتمة
وفي ختام بحثي "أخلاقيات التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي" تتجلى أثاره في أن مفهوم التجارة يدل على تقليب الأموال، وإدارتها لغرض الأرباح المشروعة، وأن التجارة الإلكترونية - بمفهومها المعاصر - تدخل في ذلك دخولاً أولياً مع إضافة تقنيات واتصالات ورسائل تؤدي إلى النتيجة الإيجابية، وأن الإسلام قد سبق الأنظمة الوضعية في اهتمامه بالتجارة، وفرّع لها أحكاماً شرعية، حتى أضحت وسيلة من وسائل الكسب المباح في الشرع الحنيف، ذلك أن التجارة الإلكترونية تعتمد على أسس ومصالح وقواعد إسلامية نظمها الإسلام على منهج رشيد، لا سيما وأن العقود مبنية على الرضا، - ومنها: عقود التجارات الإلكترونية في كل زمان ومكان ومجتمع ووسيلة - ولقد أباح الإسلام التجارة الإلكترونية في بلاد غير المسلمين ضمن علاقة المسلمين مع غيرهم بشروطها، كما أن الالتزام بأخلاقيات التاجر المسلم وضوابط المعاملات التجارية سمة مهمة في عرف التجارة الإلكترونية: من الصدق والأمانة وعدم الغش والتحلي بالأخلاق الفاضلة: مثل عدم الربا، أو الاحتكار، أو القمار، وغيرها، ولقد اقتضت حاجة الناس إلى هذا الموضوع إبرازه بصورة فقهية حتى تتضح معاملاتهم، في الخدمات الإلكترونية المقدمة، وإباحتها بضوابطها مثل البطاقات والاعتمادات المستندية ومقدمي الخدمة وغيرها.
وقد ظهرت أثار هذا البحث في تقديم خدمات الشبكة الإلكترونية، وأخذ العمولة المشروعة (الأجرة)، وأن البيع التجاري الإلكتروني جائز بشروطه بناء على العرف ووفق ما قعده الفقهاء - رحمهم الله - وإقرارات المجامع الفقهية المعاصرة، وكذلك جواز الإعلان التجاري الإلكتروني بشروطه، وأن التكييف الفقهي لبطاقات الائتمان قد أجازها في التعامل الإلكتروني في التجارة الإلكترونية على أنها وساطة تجارية بأجر أو وكالة أو كفالة بأجر مما اتضح في بحثه، سواء في التقعيد الذي ظهر لي عند الفقهاء، أو ما صدر من فتاوى وآراء لبعض المجامع والهيئات الفقهية المعاصرة، وأن الشريعة الإسلامية قد حمت هذا النوع من المعاملات (التجارة الإلكترونية) من حقوق الملكية الفكرية، وحماية المستهلك على وفق منهج إسلامي رصين، وسنّت العقوبات الرادعة لمن يتعدى عليها، وهو منهج سار عليه علماء النظم الوضعية مقتفين أثر الشريعة الإسلامية، في حين أن الالتزام بالأخلاق الإسلامية مطلب مهم في التجارة الإلكترونية.
د. محمد منصور ربيع المدخلي()
ملخص البحث:
مفهوم التجارة يدل على التقليب للأموال وإدارتها لغرض الأرباح المشروعة، والتجارة الإلكترونية -بمفهومها المعاصر- تدخل في ذلك دخولاً أولياً، مع إضافة تقنيات واتصالات ورسائل تؤدي إلى النتيجة الإيجابية، والإسلام قد سبق الأنظمة الوضعية في اهتمامه بالتجارة وفرّع لها أحكاماً شرعية، حتى أضحت وسيلة من وسائل الكسب المباح في الشرع الحنيف، ذلك أن التجارة الإلكترونية تعتمد على أسس ومصالح وقواعد إسلامية نظمها الإسلام على منهج رشيد، خاصة وأن العقود مبنية على الرضائية ومنها: عقود التجارات الإلكترونية في كل زمان ومكان ومجتمع ووسيلة، ولقد أباح الإسلام التجارة الإلكترونية في بلاد غير المسلمين ضمن علاقة المسلمين مع غيرهم بشروطها، كما أن الالتزام بأخلاقيات التاجر المسلم وضوابط المعاملات التجارية سمة مهمة في عرف التجارة الإلكترونية من الصدق والأمانة وعدم الغش والتحلي بالأخلاق الفاضلة: مثل عدم الربا أو الاحتكار أو القمار وغيرها، ولقد اقتضت حاجة الناس إلى هذا الموضوع وإبرازه بصورة فقهية حتى تتضح معاملاتهم، في الخدمات الإلكترونية المقدمة وإباحتها بضوابطها مثل البطاقات والاعتمادات المستندية ومقدمي الخدمة وغيرها.
وقد ظهرت آثار هذا البحث في تقديم خدمات الشبكة الإلكترونية وأخذ العمولة المشروعة (الأجرة) وأن البيع التجاري الإلكتروني جائز بشروطه بناء على العرف ووفق ما قعده الفقهاء رحمهم الله وإقرارات المجامع الفقهية المعاصرة، وكذلك جواز الإعلان التجاري الإلكتروني بشروطه، وأن التكييف الفقهي لبطاقات الائتمان قد أجازها في التعامل الإلكتروني في التجارة الإلكترونية على أنها وساطة تجارية بأجر أو وكالة أو كفالة بأجر، سواء في التقعيد الذي ظهر عند الفقهاء أو ما صدر من فتاوى وآراء لبعض المجامع والهيئات الفقهية المعاصرة، وأن الشريعة الإسلامية قد حمت هذا النوع من المعاملات (التجارة الإلكترونية) من حقوق الملكية الفكرية، وحماية المستهلك وفق منهج إسلامي رصين وسنّت العقوبات الرادعة لمن يتعدى عليها وهو منهج سار عليه علماء النظم الوضعية مقتفين أثر الشريعة الإسلامية في حين أن الإلتزام بالأخلاق الإسلامية مطلب مهم في التجارة الإلكترونية.
المقدمة:
الحمد لله الرزّاق الوهّاب، أحمده سبحانه وتعالى، وأصلي وأسلم على أشرف خلقه، سيدنا محمد الذي أمر بالكسب المشروع، والتجارة الرابحة، وعلى صحبه وبعد: فإن اندفاع الإنسان لإشباع حاجاته أمر لا بد منه، وهو من الأمور التي فطر عليها، وموضوع (أخلاقيات التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي) من أجل الموضوعات وأهمّها، فهو وسيلة للكسب في الإسلام، ويحتاج إلى بيان وتقعيد وتأصيل في ضوء الفقه الإسلامي، ولما له من أهمية فقد وقع الاختيار له، لحاجة الناس إليه، ولما تشهده التجارة المعاصرة من تطور سريع، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بأخلاق وضوابط، لتهذيب هذه الرغبة الجامحة لدى الإنسان في التجارة، فلو ترك أمر هذه الرغبات والسلوك بدون ضوابط لعمّت الفوضى وساد الظلم في حياة الناس وانفرد الأقوياء بكل شيء، وحرم الضعفاء من ذلك ومن خلال ما تمتاز به الشريعة الإسلامية الغرّاء من احتواء للمستجدات الفقهية، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، وقد كان هذا البحث من خلال استقراء المسائل الفقهية من مواردها، وتحليلها وبيان الأقوال فيها وأدلتها، وبيان أسسها وضوابطها وقواعدها وتوخي أسلوب المنهج العلمي المتين في البحوث، وقد تكوّن هذا البحث من مقدمة وتمهيد، وأربعة فصول، وخاتمة، لأهم نتائج البحث وفهارس للمراجع على النحو التالي:
أخلاقيات التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي
المقدمة: أهمية الموضوع وطريقة البحث فيه وخطته.
التمهيد: حقيقة التجارة الإلكترونية والمصطلحات ذات العلاقة وأهميتها.
الفصل الأول: أحكام العقود التجارية الإلكترونية وفيه مبحثان ومطالب.
المبحث الأول: الأسس والقواعد الشرعية للعقود التجارية الإلكترونية وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: مراعاة مصالح العباد.
المطلب الثاني: العقود مبناها الرضا.
المطلب الثالث: إباحة التجارة مع غير المسلمين. .
المطلب الرابع: التزام الضوابط الأخلاقية الشرعية، في العقود التجارية الإلكترونية.
المبحث الثاني: التكييف الفقهي لعقود البيوع التجارية الإلكترونية وأهم القرارات والفتاوى الفقهية المعاصرة فيها، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التكييف الفقهي للعقود التجارية الإلكترونية.
المطلب الثاني: أهم القرارات والفتاوى الفقهية المعاصرة للعقود التجارية الإلكترونية.
الفصل الثاني: الخدمات التجارية الإلكترونية وأخلاقياتها وفيه مباحث:
المبحث الأول: خدمة التجارة الإلكترونية بالدعاية والإعلان وتكييفها الفقهي وأخلاقياتها.
المبحث الثاني: خدمة الإنترنت التجارية الإلكترونية وتكييفها الفقهي وأخلاقياتها.
المبحث الثالث: خدمة التجارة الإلكترونية بالبطاقات الائتمانية المصرفية وأخلاقياتها.
المبحث الرابع: خدمة التجارة الإلكترونية بالاعتمادات المستندية وأخلاقياتها.
الفصل الثالث: حقوق الملكية الفكرية وحماية المستهلك وأخلاقياتها وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حقوق الملكية الفكرية وأخلاقياتها والتكييف الفقهي لها.
المبحث الثاني: حماية المستهلك وأخلاقيات التعامل معه.
الفصل الرابع: حماية التجارة الإلكترونية وفيا مبحثان:
المبحث الأول: حماية التجارة الإلكترونية في الشريعة الإسلامية.
المبحث الثاني: حماية التجارة الإلكترونية في النظم الوضعية.
الخاتمة: أهم الآثار للتجارة الإلكترونية.
فهارس المراجع.
التمهيد: حقيقة التجارة الإلكترونية والمصطلحات ذات العلاقة وأهـميتها:
التجارة لغة تطلق على تجر يتجر تجراً أو تجارة: إذا باع واشترى().
قال تعالى (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ)().
اصطلاحاً:
"التجارة: هي تقليب المال بالمعارضة لغرض الربح"().
وهناك تعاريف كثيرة أطلقت على التجارة الإلكترونية والتي تشمل:
الاقتصاد الرقمي التقني، حيث يقوم الاقتصاد الرقمي على حقيقتين: التجارة الإلكترونية وتقنية المعلومات، فتقنية المعلومات، أو صناعة المعلومات في عصر الحوسبة والاتصال هي التي خلقت الوجود الواقعي والحقيقي للتجارة الإلكترونية، باعتبارها تعتمد على الحوسبة والاتصال ومختلف الوسائل التقنية، للتنفيذ وإدارة النشاط التجاري، كما تقوم على فكرة الممارسة للأعمال والتسويق، وتوريد الخدمات على الخط بالاعتماد على شبكات المعلومات (الإنترنت)().
كما تطلق التجارة الإلكترونية على شرح عملية بيع أو شراء أو تبادل المنتجات والخدمات والمعلومات من خلال شبكات كمبيوترية ومن ضمنها "الإنترنت".
وفي عرف الاتصالات تطلق التجارة الإلكترونية على أنها وسيلة من أجل إيصال المعلومات أو الخدمات أو المنتجات، عبر خطوط الهاتف أو عبر شبكات كمبيوترية، أو عبر أي وسيلة تقنية.
ومن وجهة نظر الأعمال التجارية فهي عملية تطبيق التقنية من أجل جعل المعاملات التجارية تجري بصورة تلقائية وسريعة.
وفي نظر الخدمات تطلق على أنها أداة من أجل تلبية رغبات الشركات والمستهلكين والمدراء في خفض كلفة الخدمة والرفع من كفاءتها والعمل على تسريع إيصال الخدمة.
وتعرف في نظر الإنترنت بأنها التجارة التي تفتح المجال من أجل بيع وشراء المنتجات والخدمات والمعلومات عبر الإنترنت().
ولا شك أن تلك التعريفات السابقة حينما تأتي مجتمعة تعطي مفهوماً أوسع للتجارة الإلكترونية والتي تعني الوظيفة الإلكترونية للعمليات التجارية لهدف الربح.
المصطلحات ذات العلاقة: هناك ألفاظ ومصطلحات تجارية تتداخل مع مفهوم التجارة الإلكترونية، منها: الائتمان وهو مصطلح مدني بالمعنى الشامل ويعني الثقة التي تشعر الناس أن فلاناً مليء Solvable؛ لذلك يقال عنه Iladucredit، أي موثوق به أو مؤتمن، ولكنه على التعيين يراد به: الالتزام لقطعه أمر أو مصرف لمن يطلب منه أن يجيز له استعمال مال معين، نظراً للثقة التي يشعر بها نحوه.
وتطلق اللفظة -أيضاً- على المال نفسه، وهناك الائتمان الذاتي الشخصي Personnel، أي الذي يجاز لأجل ملاحقة المقترض، فلا ضامن للدين غيره، والائتمان العيني، Reelle Suret أي الذي يجاز على أثر رهن عين أو سندات مالية أو غير ذلك؛ ضماناً للدين.
وفي الحساب تدل اللفظة Credit على ما هو مطلوب للمرء وتقابلها المديونية Debit أو ما هو مطلوب منه().
السمسار "وسيط تجاري": هو الذي يقوم بأعمال السمسرة لحساب موكليه مقابل أجرة تحدد على أساس ثمن الصفقة المتفق عليها، ويحصل عادة على نصف السمسرة من المشتري والنصف الآخر من البائع، ويعتبر السمسار محترفاً مهنة التجارة، وهو مصطلح فقهي معتبر.
وأما الوساطة التجارية: فهي صفقة يصل بها المرء بين اثنين في سبيل تعاقد أو عمل، وتطلق على الأجرة التي يقبضها الوسيط مكافأة على ذلك().
ولذا يطلق على الوكيل بالعمولة أو الوسيط التجاري الذي يحترف القيام بالأعمال التجارية لحساب غيره وكالة عنهم، ويعم ذلك التاجر الذي يتعاطى الأعمال التجارية ويتخذها مهنة مألوفة، وفي بعض الحالات توجيه بعض الأعمال التي تستتبع بمجرد القيام بها صفة المهنة التجارية، ولكي يكون الشخص تاجراً يجب أن يمارس مهنته التجارية باسمه ولحسابه الشخصي()، ويفهم مما سبق إضفاء صبغة التجارة عامة والتجارة الإلكترونية على أجزاء كثيرة مما سبق؛ باعتبار المهنة التجارية، على اختلاف بسيط في التقنية المعاصرة الإنترنت، وهي صفة جديدة تضم للسمسرة والوساطة والائتمان والتاجر؛ لتحقق المعنى المطلوب، وبخاصة أن التجارة الدولية أخذت تتنامى على الإنترنت بيعاً وشراء وتبادلاً تجارياً().
خاصة وأن التكنولوجيا أصبحت مصطلحاً معاصراً تُطلق ويُراد بها التقنية والتطبيق الفني والعملي، وكل وسيلة تستخدم لتوفير الضروري للمعيشة الإنسانية والرفاهية أيضاً().
ووفق هذا المصطلح يمكن إدخال التقنية المعبر عنها بالإلكترونيات ضمن ذلك ولا فرق، والشريعة الإسلامية تجعل الإتقان للعمل -ومنه: التقنية المعاصرة- في هذا الإطار العام لها().
وأهمية التجارة في الإسلام: أنها من الأشياء المحبوبة والمرغوب فيها، وقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين يشتغلون بالتجارة في حياتهم، ولم يترك أبو بكر الصِّدِّيق الاشتغال بالتجارة حتى قيل له: إنك أصبحت قابضاً على ناصية الأمور في البلاد كلها، مالك وللتجارة؟، فقال لأكفل بها أهلي وأولادي. وكذلك كان الفاروق رضي الله عنه. وكذلك كان ذو النورين رضي الله عنه وكان من أغنى الناس يومئذ، وكذلك عبد الله ابن الزبير رضي الله عنه، وهو أحد العشرة الكرام، وكذلك نافع رضي الله عنه، فإنه كان من التجار الذين ضرب بهم المثل في التجارة، وكانت تجارته واصلة إلى الشام ومصر.
ذلك، لأن التجارة من الأمور الفاضلة في الإسلام، ولذا نجد علماء الإسلام في الأيام السالفة أغلبهم كانوا تجاراً وهذا الإمام البخاري كان في بلاده تاجراً رئيس التجار. وكان الإمام أبو حنيفة من التجار الأثرياء، والمال من أعظم نعم الله على عباده، حتى امتن الله به على أنبيائه، فقال مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) [الضحى : 8] وأنعم على سليمان عليه السلام بالمال والملك. ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى ذكر المال في القرآن وسماه فضل الله في 25 موضعاً، وباسم الخير في 10 مواضع، وفي 12 موضعاً باسم الرحمة وفي 12 موضعاً باسم الحسنة().
وإذا كان غير المسلمين من الشرق والغرب يهتمون بالكسب المالي والتجاري دون النظر للوسيلة فإن شريعتنا السمحاء حثت -أيضاً- على الكسب ولكن في إطار أخلاقي شرعي، ففي القرآن الكريم نجد مادة "تجر" تتسع لآيات تذكر التجارة وترفع من شأنها().
"ومن يبيع ويشتري ويتجر يتعيّن عليه معرفة أحكام التجارات، وكذا ما يحتاج إليه صاحب كل حرفة يتعيّن عليه تعلّمه، والمراد الأحكام الظاهرة الغالبة دون الفروع النادرة والمسائل الدقيقة"().
وتعتبر التجارة من المهن الشريفة التي يمارسها الإنسان لغرض المعيشة والكسب المشروع، وقد ضمت كتب الفقه الإسلامي ألوان التجارات وزكاتها والبيوع والسمسرة التي يتوسط صاحبها بين البائع والمشتري دلالاً على الثمن والسلعة().
ولأن المال هو قوام الأعمال الدنيوية كلها، وقد قدمه الله تعالى في الذكر فقال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)().
وأهمية التجارة الإلكترونية تظهر -أيضاً- في أن الناس أمام واقع ومفرزات عصر التقنية العالية، ونماء استخدام وسائل التقنية، وتزايد الاقتناع باعتمادها نمطاً لتنفيذ الأعمال ومرتكزاً ومحدداً للتطور، وأمام اتجاه الدول العربية والإسلامية للدخول في عضوية منظمة التجارة الدولية، وفي ظل متطلبات التجارة الدولية المتمثلة بتحرير التجارة في السلع والخدمات، ودخول الشركات الأجنبية الأسواق العربية والإسلامية كجهات منافسة حقيقية، ولما توفره التجارة الإلكترونية من تسهيل عمليات التنافس إذا ما توافرت المكنة لتأديتها، وتحققت متطلبات نجاح مشاريعها.
إن العالم الذي يتجه إلى إحلال التقنية في كل ميدان من ميادين النشاط الإنساني، وبشكل رئيس، الخدمات الحيوية والخدمات التي تقدمها الدولة، سيضع التجارة الإلكترونية موضوعاً على رأس موضوعات قائمة التطور والتنمية، لهذا كله، يعد تجاهل التجارة الإلكترونية أمراً غير متناسب مع رغبتنا في التعامل مع الإفرازات الإيجابية لعصر تقنية المعلومات وامتلاك وسائل مواجهة الآثار السلبية وإفرازات عصر العولمة().
وهناك دراسات وبحوث تشير إلى أن 1,3 مليار دولار حجم التجارة الإلكترونية لدول الخليج العربي، وبينما تصدرت دول مجلس التعاون الخليجي قائمة الدول العربية من حيث حجم التجارة الإلكترونية بقيمة 1,3 مليار دولار وأتت مصر بعدها بنحو 500 مليون دولار، فيما توزعت 1,2 مليار دولار أخرى على بقية الدول العربية. وذكرت الدراسات أن التجارة الإلكترونية أفضل السبل للوصول إلى الأسواق العالمية بأقل تكاليف ممكنة.
ودعت الدراسة إلى إزالة العقبات التي تحول دون تطور هذه الصناعة عربياً، وفي مقدمتها: سيطرة الشركات العالمية على الأسواق العربية في هذا المجال وضعف كفاءة وانتشار استخدام الإنترنت في العالم، وأكدت أن التجارة الإلكترونية تعد مفتاح التصدير للدول النامية خلال الفترة المقبلة، مما يعني ضرورة الإسراع بتهيئة وتطوير قاعدة مناسبة تمنحها القدرة على التحرك بمرونة في هذا المجال().
ولا شك أننا نشهد اليوم أوضاعاً في المعاملات الفقهية الاقتصادية لم تكن موجودة في العصور السابقة، ولم يعطها الفقهاء أحكاماً، غير أن الفقه الإسلامي لم يقف يوماً أمام ما يستجد من الحوادث، والطريق الصحيح لهذه المعاملات الجديدة هو: إعادة النظر والبحث والاستقراء والاجتهاد على وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإجماع والقياس والمصلحة المعتبرة والعُرف الصحيح والآثار المترتبة على ذلك، مما يفتح للناس آفاقاً واسعة في التعامل، ويرفع عنهم الحرج والمشقة والضرورية بطرقه الصحيحة، لمعرفة أحكام المعاملات الجديدة().
الفصل الأول
أحكام العقود التجارية الإلكترونية
وفيه مبحثان:
المبحث الأول
الأسس والقواعد الشرعية للتجارة الإلكترونية
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: مراعاة مصالح العباد
هناك قواعد أساسية للتجارة الإلكترونية. فالأصل "أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً.. والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضاً.. والمعاملات ما كان راجعاً إلى مصلحة الإنسان مع غيره كانتقال الأملاك بعوض وغير عوض بالعقد"()، وعقود التجارة الإلكترونية تدخل في هذه المقاصد.
وينبه الشاطبي على أهمية قضاء المصالح في جواز المعاملات التجارية ومنها: التجارة الإلكترونية؛ مما يفهم من سياق كلامه لقيام مصالح الإنسانية فيها، ولهذا تجده يهتم بالإطار الأخلاقي للتجارة وينص على أن "المصلحة التكميلية تحصيل مع فوات المصلحة الأصلية، لكن حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت.. وأصل البيع ضروري، ومنع الغرر والجهالة مكمل"().
وأساس التشريع الاقتصادي الإسلامي: هو المصلحة، وقد عبر الأصوليون بقولهم: "حيث وجدت مصلحة فثمة شرع الله"، وإنما تربط جميع الأحكام بالمصالح إذ الغاية منها جلب المنافع ودرء المفاسد()، ويتحقق ذلك في التجارة الإلكترونية.
ويبيّن د/محمد عقلة() -في هذا المجال- اعتماد المعاملات الاقتصادية الوازع الأخلاقي والباعث الديني -المتمثل في مرضاة الله سبحانه وتعالى- مقياساً لكون الأمر مصلحة.
وأستشهد بقول علال الفاسي()، "الذي لا شك فيه أن الشريعة الإسلامية مبنية على مراعاة قواعد المصلحة العامة في جميع ما يرجع للمعاملات الإنسانية؛ لأن غايتها هي تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية لسكان البسيطة، عن طريق هدايتهم لوسائل المعاش وطرق الهناءة... وراعى الإسلام هذه الحقيقة، فبين أن مقياس كل مصلحة هو الخلق المستمد من الفطرة.. واعتبار هذا العرف الإنساني الفطري مقياساً للقانون وأساساً للخلق".
وبهذا يفهم أن أساس المعاملات بوجه عام -والتجارة الإليكترونية خصوصاً تعتمد في إطارها العام ونموذجها الأمثل- الخُلق؛ مقياساً للنظام في التعامل بين سائر البشر، وأن المصلحة تُعدُّ من أهم الأسس في التطبيق التجاري الإلكتروني؛ لأنه لم يفتح باب الاستصلاح إلا في المعاملات ونحوها مما تعقل معاني أحكامها().
وينبه الشاطبي إلى ضرورة أخذ الحيطة والنظر في عواقب الأعمال التجارية وتجنب محرماتها، حيث نص على "أن أصل البيع ضروري، ومنع الغرر والجهالة ومنع بيع المعدوم إلا في السلم، وفي المعاملات: كالمنع من بيع النجاسات().
وأن المصلحة الشرعية تقتضي الأخذ بها في هذا الباب؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، ولقد كان موقف الإسلام - من لدن الصحابة إلى عصر الأئمة أصحاب المذاهب - العمل بالمصلحة، وتقريرها في القواعد الأصولية والفروع الفقهية().
وفي تقرير المسائل الفقهية المستجدة ومنها -في نظري- التجارة الإلكترونية ما أورده د/ محمد مصطفى شلبي (أن الفقه الإسلامي لم يقف يوماً أمام ما يستجد من الحوادث، وأن مثل هذه المعاملات التجارية الجديدة لا تكون شرعية إلا إذا استندت إلى دليل شرعي، فإذا لم تستند إلى دليل صحيح لا تكون شرعية..) وأدلة الأحكام في أصول الفقه هي: كتاب الله، وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإجماع الصحيح، والقياس، والعرف الصحيح، والمصلحة المرسلة، ثم دليلا الاستثناء: الإستحسان وسد الذرائع، ولو طبقنا ذلك على المعاملات المستحدثة فإننا ننظر إلى الآثار المترتبة عليها من حيث المنافع والمضار، فتباح حين الحاجة الملحة ودفع الحرج الشديد، هذا هو الطريق الصحيح لمعرفة أحكام المعاملات الجديدة().
ومما ينطبق على ذلك: وسيلة التجارة الإلكترونية المعاصرة، وأن أساسها مراعاة مصالح العباد؛ أخذاً من الشريعة الإسلامية الغرّاء.
المطلب الثاني
العقود مبناها الرضا
تعريف العقد لغة يطلق على الربط والشد والإحكام والتوثيق ونقيض الحل ويطلق على العهد() أيضاً.
وفي الاصطلاح: يطلق العقد على توافق إرادتين: إرادة الموجب، وإرادة القابل، على وجه مشروع، يثبت أثره في المحل المعقود عليه: كالبيع والإجارة().
وشرعية العقد التجاري الإلكتروني وتكييفه في الفقه الإسلامي تظهر في أن الشروط المعتبرة في العقود التجارية الرضائية وقواعد الإثبات فيها وإمكان الالتزام تسلماً وتسليماً مما يحقق حرية التعاقد والتيسير والمساعدة في هذا المجال المهم، ولقد عدت الشريعة الإسلامية إمكان الكتابة وسيلة من وسائل الرضا في العقد؛ امتثالاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)()، وقد جعل الرضا في العقود عامة والعقد التجاري بصفة خاصة من أهم خصائص التعامل بين الناس، وقد أجازت البحوث الفقهية المعاصرة شرعية إبرام العقد عن طريق استخدام التقنيات الحديثة، كالتلغراف والهاتف والفاكسملي()، وذلك للمصلحة المتحققة في ذلك، وللتسهيل على المتعاملين في مجالات التجارة إضافة إلى أخذ مبدأ الإيجاب والقبول في العقود وهو متحقق هنا، إما بالتوقيع أو المفاهمة وأخذ الصور التحريرية الموقعة عن طريق الرسائل بواسطة التقنيات المستحدثة غير أن الإشكال الوارد - هنا - هو مدى إمكان قياس الإنترنت والحاسب الآلي الحديث وعدهما من صور الرضا والإيجاب أو القبول في العقد. يذكر عبد الله راشد السنيدي في ضوابط العقد الإلكتروني:
"في ظل استخدام التقنيات الحديثة في إبرام العقود، كالتلغراف والهاتف والفاكسملي والكمبيوتر والإنترنت، ففي مجال إبرام العقود المتعلقة بالتلغراف والتلفون أو الفاكس، حصل نوع من البحث لتحديد عناصر التعاقد، وتحديد أثر هذه الوسائل في إثبات العقود، وما يُراد به من شروط وقيود، إلا أنه على الرغم من هذه الإشكالات فإن التعاقد عبر شبكة الإنترنت أصبح واقعاً لا يمكن إنكاره"().
وان ما يجعل أهمية عد قبول المحرر الإلكتروني دليلاً على الإثبات بديلاً عن المحرر الخطي إنما هي المصلحة المتحققة من وراء ذلك، ورفع الحرج والضيق عن المتعاملين في هذا النوع من التجارة، وهو مبدأ أقرته الشريعة في مقاصدها التشريعية()، بالإضافة إلى أن السرعة في المعلومات والإنجاز، ومواكبة التطور العلمي، وتسهيل التجارة الإلكترونية عبر صناديق البريد الإلكتروني E-mail ، وإمكان الاتصال الصوتي والمرئي على الإنترنت، وإنشاء محلات تجارية إلكترونية، يمكن زيارتها والاطلاع عليها وعلى البضائع الموجودة فيها، وتحرير العقود على أقراص وشرائط ممغنطة، كل ذلك سهل هذه العملية في ظل تصور حيثيات العقد الإلكتروني من بدايته إلى نهايته، كل هذا يجعل القبول المشروع لهذا النوع من العقود المستحدثة().
في حين أن الأنظمة الحديثة قد أخذت به، وعدته من البيانات المهمة في العقود التجارية، وأي مخالفة يرجع فيها لذوي الاختصاص، من هيئة التحقيق والادعاء العام وديوان المظالم، في ضوء النظام الوارد في نظام البيانات التجاري السعودي()، وغيره من الأنظمة المعاصرة، كما أن التوقيع والتدوين الإلكتروني وحجيته في الإثباتات واحترامه وأنه مساو للمحررات الخطية ما أقرّ به في القانون الفرنسي(). مما يدل على أن العقود التجارية مبنية على الرضا.
المطلب الثالث
إباحة التجارة مع غير المسلمين
اختلف الفقهاء في حكم سفر المسلم للتجارة إلى غير بلاد الإسلام على قولين: -
القول الأول: إن كان المشركون أهل ذمة وينعزلون في بلد معين، فهذا البلد يُعدُّ من دار السلام، والسفر إليه جائز، بل يجوز المقام فيه للتجارة؛ لأنه جزء من دار السلام()، والسفر إليها في أصله مكروه، إلا لغرض صحيح، مثل الدعوة، أو أداء رسالة، أو القيام بمهمة سفارة، أو تجارة، ونحو ذلك، فإنه يجوز السفر من أجلها، لكن بشرط أن يأمن على دينه، وأن يستطيع إظهاره، وألا تجري عليه أحكام الكفر، وهو الذي عليه جمهور الفقهاء من غير المالكية، واستدلوا على ما ذهبوا إليه: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث رسله إلى ديار أهل الحرب؛ ليؤدوا إليهم كتبه()، أو ليتفاوضوا معهم حول علاقة- السلم والحرب()، بل كان بعض الصحابة- يتاجر في ديار الحرب، مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد روت أم سلمة قالت: "خرج أبو بكر في تجارة إلى بصرى قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة"().... وذكرت تمام القصة.
فالسفر لدار الحرب من أجل التجارة لا بأس به بالشرط الذي ذكرناه، هذا هو رأي جمهور الفقهاء().
القول الثاني: يذهب المالكية إلى عدم جواز السفر للتجارة الدولية للبلاد غير الإسلامية، وأن على الإمام منع المسلمين من الخروج من دار الإسلام، وذلك لأن المسلم مأمور بالهجرة من دار الحرب وعدم البقاء فيها().
غير أن بعض المالكية خالف هذا ووافق الجمهور، كابن العربي().
والراجح من القولين: القول الذي يرى جواز سفر المسلم إلى دار الحرب للتجارة، إذا كان يأمن الفتنة في دينه، وكان يظهر دينه ويعلنه، وهو الذي عليه عامة الفقهاء القدامى والمعاصرين، ويفهم مما مضى جواز التجارة الإلكترونية بالمفهوم المعاصر لهذا النوع من المعاملات الحديثة، بالضوابط المشترطة آنفا.
المطلب الرابع
التزام الضوابط الأخلاقية الشرعية في العقود التجارية الإلكترونية
هناك أسس شرعية ينبغي للتاجر أن يتحلى بها، وأن يجعل منها نبراساً في حياته التجارية. ومن تلك الأخلاق الشرعية وضوابطها:
تحريم الغش والخدع لكسب التجارة
لقد حرم الإسلام الغش والخداع في التعامل؛ لأن مبنى التعامل في الإسلام يقوم على الصدق والأمانة، ولكن بعضاً من سفهاء الناس لا يرعون حلاً ولا حرمة في معاملاتهم، يقومون بأساليب متعددة لغش الناس بقصد زيادة أموالهم()، وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فعل ذلك ليس جائزاً في منهج الإسلام القائم على الصدق والأمانة، وذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام؛ كي يراه الناس؛ من غش فليس مني"، وفي رواية "من غشنا فليس منا"().
ولقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلابة، كما في حديث حبان بن منقذ الذي كان يغبن في المبايعات فقال له رسول الله: "إذا بايعت فقل: لا خلابة" والخلابة: هي كل أنواع الغش والاحتيال التي يستعملها البائع لإنفاق سلعته().
تحريم الربا كسبب من الأسباب التجارية:
حرّمت الشريعة الإسلامية الربا تحريماً قاطعاً بشتى صوره وأشكاله() وذلك لورود الأدلة على ذلك، ومنها: قول الله سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)().
ومنه قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ*وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)().
ومن الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "درهم ربا يأكله الرجل -وهو يعلم- أشد عند الله من ست وثلاثين زنية().
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جابر أنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، وقال: (هم سواء)().
والربا يقوم على كسب بلا جهد، يثري به صاحب المال على حساب الآخرين، بعيداً عن الخسارة، إنما له فائدة مضمونة ينالها في جميع الأحوال().
تعيين الأموال الربوية:
لم يرد تعيين الأموال الربوية في القرآن الكريم، وإنما ورد تعيينها في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذهب بالذهب، مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والفضة بالفضة، مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والحنطة بالحنطة، مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والشعير بالشعير، مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والتمر بالتمر مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا. فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد"(). وعلى ذلك جرى جمهور الفقهاء في حرمة المعاملات الربوية().
تحريم الاحتكار كسبب من أسباب التجارة والشركة:
إن المحتكر هو الذي يحبس السلع حتى يبيعها بأسعار مرتفعة يشبع بها نهمه وجشعه للمال، وهو يشترك مع المرابي في هذه النفسية الآثمة وحب الأثرة والأنانية().
الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة، منها: حديث معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحتكر إلا خاطيء"()، معنى الخطأ في الحديث: هو الخطأ الذي يؤدي بصاحبه إلى الهلاك عن طريق الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى، كما جاء في حديث ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون"(). وفي حديث آخر لابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من احتكر الطعام أربعين ليلة بريء من الله وبريء الله منه"(). وقد بيّن الإمام ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية أن تواطؤ أرباب السلع على بيع سلعهم التي يحتاج إليها الناس بأكثر من ثمنها نوع من الاحتكار، وكذلك الإلزام بألا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا أناس معرفون، فلا تباع السلع إلا لهم ثم يبيعونها هم بما يريدون.
ويعد حبس منافع الدور والأرض والعمال وعدم بذلها إلا بأكثر من المثل من الاحتكار().
وبما أن شريعة الإسلام قد حرمت الاحتكار فقد اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى أن للإمام أن يبيع السلع المحتكرة على أصحابها أو يسعر عليهم. فيمنعهم من البيع إلا بسعر تتحقق فيه مصلحة المستهلكين والمنتجين أو البائعين على حد سواء().
تحريم الرشوة كسبب للمنافسة التجارية غير المشروعة:
الرشوة هي: المال الذي يعطيه إنسان لآخر من أجل إعانته على الباطل.
وقد حرمت الشريعة الإسلامية الرشوة؛ لما فيها من الإثراء على حساب الغير بدون جهد يبذله. والرشوة تتعدد أساليبها ويجني المستغلون عن طريقها أموالاً طائلة، يسطون عليها من أصحاب الحاجات عن طريق استغلال مناصبهم وجاههم من أجل جمع الثروات. والإثراء على حساب الآخرين، وغالباً ما يكونون من المحتاجين والضعفاء من الناس().
فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما في عملية الرشوة().
روى البخاري() ومسلم() عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من الأزد على أموال الصدقة يقال له: ابن اللتيبه، فلما جاءه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا لكم، وهذا أهدي لي فقال له: "هلا قعدت في بيت أمك وأبيك فنظرت أيهدى لك أم لا؟" ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وقال: "ما بال العامل نستعمله على بعض العمل من أعمالنا ثم يجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي! أفلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه فينظر أيهدى له شيء أو لا! والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه. فقال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت".
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه عنى بمحاسبة ولاته على الأمصار، ويتجلى في سؤاله لهم: من أين لك هذا؟
وكان رضي الله عنه حين يتأكد من سلامة مصدر مال الوالي يدفعه إليه ويعيده إلى عمله، وعندما يغلب على ظنه أن مال واليه دخل فيه ما لا يجب شاطره، أو أخذ معظمه، حسب ما يراه كافياً ومناسباً.
وبذلك نجد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسى قاعدة: من أين لك هذا؟ قبل التشريعات الحديثة بقرون()، وهو دليل .على تحريم الرشوة؛ لأنها من أساليب المنافسة التجارية غير المشروعة.
تحريم القمار لكونه سبباً من أسباب المنافسة التجارية غير المشروعة:
حرّمت الشريعة الإسلامية القمار بكافة أنواعه وشتى صوره وأشكاله؛ لما فيه من الكسب بلا جهد، وأكل أموال الناس بالباطل واعتماده على الحظ في كسب المال، وهو ينشر العداوة والبغضاء، وسوء الأخلاق بين الناس، ويشغل عما أوجبه الإسلام على المؤمنين من الطاعات وصنوف العبادات، وغالباً ما تحيط به مظاهر المجون والفساد والترف وشرب الخمور()؛ لذا جمع الله تحريم هذه الأشياء المتلازمة في آية واحدة، حيث قال جلّت قدرته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)()، وفي ذلك بيان لحرمة المنافسات التجارية غير المشروعة.
تحريم الاتجار بالمحرّمات:
حرمت الشريعة الإسلامية المتاجرة بالمحرّمات بجميع أنواعها، ومن ذلك: الاتجار بالخمور بجميع أنواعها: من حشيش، وأفيون، كما حرمت الاتجار بالأعراض والأجساد تحت جميع العناوين وشتى صنوف الإعلانات الزائفة التي تبدل الحقيقة وتضفي على الرذائل صبغة الفضيلة أو الرغبة في التحرر والتقدم().
وقد هدد الله تعالى المتعاملين بالمحرمات بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)().
وكذلك حرم المتاجرة مع الأعداء بالسلاح والحديد، وكل ما فيه ضرر على المسلمين().
تحريم الغصب لكونه سبباً من الأسباب الرابحة في التجارة:
الغصب هو الاستيلاء على مال الغير ظلماً. وقد اتفق الفقهاء على حرمة الغصب، وأن الذي يرتكبه يعدُّ مرتكباً للكبيرة. وأن الكسب عن طريق الغصب حرام لا يحل أخذه. بل قد نص الفقهاء على أنه لو أخذ مال غيره بطريق الحيلة فهو حرام، وقد تضافرت نصوص الشريعه على حرمة الغصب() فقال تعالى (لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)().
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امريء، مسلم إلا بطيب نفس منه"().
قال صاحب الاختيار: دلَّ على حرمته: الإجماع، وهو من المحرمات عقلاً؛ لأن الظلم حرام عقلاً على ما عرف في الأصول، فكيف بك إذا تأيدت هذه المحرمات عقلاً، بنصوص القران والسنة().
تحريم السرقة:
إن النفس الخبيثة قد تتسلط عليها شهوة جمع المال فتجر صاحبها إلى موبقات الأعمال فتمتد يده الأثمة إلى اغتيال أموال الآخرين بسرقتها، وقد حرّمت الشريعة الإسلامية السرقة وحددت عقوبة زاجرة رادعة لكل من تسوّل له نفسه سرقة جهود وأتعاب الآخرين().
والسرقة تنقسم إلى قسمين:
السرقة الصغرى:
وهي تلك التي تكون على طريقة أخذ مال الغير على وجه الاختفاء عن مالكه(). وقد حدّ القرآن الكريم هذه الجريمة بالعقوبة المناسبة التي في إيقاعها أمن المجتمع وعقوبة المجرمين. فقال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)().
السرقة الكبرى:
وهي التي تكون عن طريق قطع الطريق بالحرابه ونتيجة لتعدي هؤلاء على الأمن وأرواح وأموال أفراد المجتمع()، فقد قرر القرآن الكريم لها عقوبة زاجرة فقال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ)().
المبحث الثاني
التكييف الفقهي لعقود البيوع التجارية الإلكترونية
وأهم القرارات والفتاوى الفقهية المعاصرة فيها
وفيه مطلبان:
المطلب الأول
التكييف الفقهي لعقود البيوع التجارية الإلكترونية
يُعدُّ البيع الإلكتروني في التجارة الإلكترونية سمة قوية في العرف التجاري العالمي المعاصر؛ لاحتوائه على السرعة والقوة والإنجاز والربحية وفق أطر وعلاقات برمجية ظهرت في أقراص ممغنطة ذات تخزين عال وسيطرت عليها لغة التجمع الرمزي والدوائر الإلكترونية المطورة في أجيال صناعية وتقدم اقتصادي يخدم المعاملات التجارية المعاصرة().
وتُعدُّ التجارة من وسائل البيع المشروعة في الإسلام، فقد "أجمع العلماء على أن العلم منه: ما هو فرض متعين، ومنه: ما هو فرض على الكفاية.. والنوع الثاني: ما كان فرضاً لازماً؛ ولكن وجوبه متوقف على تحقق شرط، مثل العلم بأحكام الزكاة، وهكذا أحكام المعاملات والمبايعات والمداينات والشركات وهكذا من باشر البيع والشراء، وذلك يحصل بسؤال أهل العلم العارفين بأحكام الشراء جملة وتفصيلا. قال تعالى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(). وقوله تعالى (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ)() عقب آية الدين "لينبّه على أن من تعاطى الدين والبيع والتجارة فإنه يجب عليه أن يتقي الله ويتعلّم من أحكامها ما يمنعه ويحجره عن ظلم العباد وأكل الحرام"(). "وما به قوام المعايش، كالبيع والشراء... فالنفوس مجبولة على القيام بها.. فهي -إذن- من فروض الكفاية"().
والبيع التجاري الإلكتروني له صور عديدة إما أن يختار السلعة على الموقع الإلكتروني المعروف وبعد الموافقة يدفع ثمنها وتشحن السلعة للمشتري، وتحميلها على جهاز المشتري، أو تكون على طريقة التوقيع الإلكتروني بواسطة بطاقة الائتمان التجاري، وسحب المبلغ من حساب المشتري بواسطة التاجر (الوسيط) بين البائع والمشتري، وأخذ عمولة على ذلك، أو عن طريق الإعلان التجاري للسلعة والاتصال على صاحب السلعة المعلن عنها وغير ذلك.
والتكييف الفقهي لهذا النوع من البيوع المعبّر عنه بالبيع التجاري الإلكتروني، فإنه ومن خلال التقعيد الفقهي لهذه النازلة والاستقراء الفقهي لها، تبيّن جواز ذلك، ومما يفهم في تصوّر لعقد البيع الإلكتروني لما ورد عن ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى() ما نصه "إن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حداً، لا في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا نقل عن أحد من أصحابه والتابعين أنّه عيّن للعقود صفة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك، من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة، بل قد قيل: إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم، وأنه من البدع، وليس لذلك حد في لغة العرب، بحيث يقال: إن أهل اللغة يسمون هذا بيعاً؛ حتى يدخل أحدهما في خطاب الله، ولا يدخل الآخر، بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعاً دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعاً، والأصل بقاء اللغة وتقريرها، لا ننقلها ولا نغيرها، فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجح فيه إلى عرف الناس وعادتهم، فما سموه بيعاً فهو بيع، وما سموه هبة فهو هبة..
والعادات ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر.. والعقود والشروط من باب الأفعال العادية والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع".
ومما يدل على ذلك: أن العقود التجارية الحاصلة في التجارة الإلكترونية جائزة؛ لأنها من هذا الباب حسب فقه ابن تيمية رحمه الله.
وعن "العقود التجارية الجديدة نجد أن الشريعة الإسلامية لم تحصر التعاقد في موضوعات معينة، ولم يوجد هناك نص في الشريعة يحدد أنواع العقود، ولهذا نرى إمكان استيعاب الفقه الإسلامي لهذه العقود، وخاصة المذهب الحنبلي الذي هو أكثر المذاهب توسعاً في الاعتماد على الشروط"().
ولقد تناول الفقهاء -أيضاً- اللفظ المعبّر بأي وسيلة كانت، فاللفظ كما يقول الشاطبي: "إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى المقصود"(). والإيجاب تعبير صادق -عند الحنفية- يثبت به خيارات البيوع()، ويُقرر الشافعية العقد بالوسائل الحديثة، سواء الهاتف أو الإنترنت أو الفاكس في ضوء الفقه لديهم. وقالوا: "لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف"()، وهو ظاهر في وسيلة البيع الإلكتروني.
ومثله: ما جاء في الفقه الحنفي حول هذه المسألة، وانعقاد العقود التجارية بالأسباب الشرعية، من غير نظر إلى تحديد نوعيتها، سواء الوكيل أو السمسار أو العاقد نفسه، فقد جاء عنهم: "إذا قال الرجل: اذهب بثوبي هذا إلى فلان حتى يبيعه أو اذهب إلى فلان حتى يبيعك ثوبي الذي عنده فهو جائز"()، "ولو قال: بعتكه بكذا، بعد وجود مقدمات البيع فقال: اشتريت ولم يقل: منك، صح. وكذا العكس"()، "وكذا النطق ليس بشرط لانعقاد البيع والشراء.. لأنه إذا كانت الإشارة مفهومة في ذلك فإنها تقوم مقام عبارته"()، وهي رسائل معبّرة، وكذلك البيع الإلكتروني.
وفي الفقه المالكي: "الفرق بين قاعدة الأسباب العقلية والأسباب الشرعية -نحو بعت واشتريت- يثبت سبب هذا القسم مع آخر حرف منه؛ تشبيهاً للأسباب الشرعية بالعلل العقلية؛ لأن العلل العقلية لا توجب معلولها إلا حالة وجودها، فكذلك الأسباب الشرعية"()، إذن الأسباب العلمية المعاصرة كالإنترنت والهاتف والحاسوب: أسباب تنفيذية، تعقد بسببها العقود التجارية، ولا فرق عند تحقق موجبات البيع الشرعي.
ومما يزيد الأمر سعة في الفقه الإسلامي: ما جاء في الفقه الشافعي "إذا قال السمسار المتوسط بينهما للبائع: بعت بكذا؟ فقال: بعت. وقال للمشتري: اشتريت بكذا؟ فقال: اشتريت. فوجهان حكاهما الرافعي، أصحهما -عند الرافعي وغيره- الانعقاد، لوجود الصيغة والتراضي، والثاني: لا ينعقد لعدم تخاطبهما"().
وفي صورة أخرى لانعقاد التجارة في البيوع بالأسباب: ما جاء عن "بعض الأصحاب -تعريفاً على صحة البيع بالمكاتبة- لو قال: بعت داري لفلان وهو غائب فلما بلغه الخبر، قال: قبلت. انعقد البيع، لأن النطق أقوى من الكتب"().
وفي الفقه الحنبلي: "قاعدة في بيان الوقت الذي تثبت فيه أحكام الأسباب مع المعاملات "للأسباب مع أحكامها أحوال... وأما ما يفتقر إلى الجواب فمثله مثل المعاوضات... فإذا قال: بعتك هذه الدار بألف اقترنت صحة البيع بالتاء معه قوله: قبلت، على الأصح.. وأما ما يتعجل أحكامه ويتأخر عنه بعض أحكامه فله أمثلة: أحدها البيع، ويقترن الانعقاد والصحة بآخر حروفه على الأصح، ويتراخى لزومه إلى الإجازة والافتراق وانقضاء خيار الشرط"().
وبهذا يظهر أن التكييف الفقهي لعقد البيع الإلكتروني على وجه عقد البيع بواسطة السمسرة جائز، بشروط البيع التجاري وأركان الإيجاب والقبول، وثبوت الخيارات في البيوع وانعقاد العمل التجاري بدون نظر إلى الأسباب الموجبة له، ما دام هناك قرائن ومسببات توجب انعقاده، مع وجود الرضائية والاختيار والعين المباحة في سلع البيوع المتعددة.
ومما ينبغي الحرص عليه: أن العقود بالوسائل المبيحة مبيحة للطرفين فيما لم يشترط فيها القبض الفوري، أما إذا بيع ربوي بمثله فلا يصح العقد بها إلا إذا تم القبض، بأن يكون لهما وكيل بالتسليم عند الآخر، أو عن طريق أحد البنوك، ولكل منهما رصيد، وغيرها مما هو من متعلقات القبض()، بدليل إجماع العلماء على ذلك؛ مستندين على الأحاديث، ومنها: الحديث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عيناً بعين، فإذا اختلفت هذه الأوصاف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد"().
فدل على اشتراط القبض الفوري في تلك الأصناف والابتعاد عن العقود التي فيها شبهة الحرام، سواء عن طريق الشركات أو وسائل الاتصال المعاصرة، وعدم حل أرباحها أو التعامل معها لأن الغالب عليها المقامرة والتدليس والغش.
المطلب الثاني
أهم القرارات والفتاوى الفقهية المعاصرة للتجارة الإلكترونية
هناك فتاوى وقرارات انتهت إليها المجامع الفقهية والهيئات بخصوص أحكام التجارات الإلكترونية منها: موقع "شركة اربح الإلكترونية شركة مساهمة يقوم المشترك بدفع 25 دولار ويعطى صاحبها مقابلها صفحة إلكترونية له مدى الحياة وترويجها يكون، إما عن الإعلان، أو البريد الإلكتروني، أو الهاتف. ويربح دولارات كلما اشترك معك آخر، أو سعيت أكثر... فهذه الشركة تحوطها الشبهات والمقامرات من أطراف متعددة، وهي وإن كانت بعض شروطها لا غبار عليه، ولكن الغالب عليها المقامرة، ولهذا فإنني لا أرى جوازها، مثلها مثل الدولار الصاروخي، فقد أفتت أكثر لجان الفتوى بمنعه، وهذه مثلها بل نوع منها"().
وقد جاءت نص الفتوى من مجمع الفقه الإسلامي حول هذا الموضوع (عقود التجارة الإلكترونية بالوسائل الحديثة) ونصها "الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (54/3/6)
بشأن
حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ- الموافق 4 ا - 20 آذار (مارس) 1990م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة".
ونظراً إلى التطور الكبير الذي حصل في وسائل الاتصال وجريان العمل بها في إبرام العقود لسرعة إنجاز المعاملات المالية والتصرفات.
وباستحضار ما تعرض له الفقهاء بشأن إبرام العقود بالخطاب وبالكتابة وبالإشارة وبالرسول، وما تقرر من أن التعاقد بين الحاضرين يشترط له اتحاد المجلس (عدا الوصية، والإيصاء، والوكالة) وتطابق الإيجاب والقبول، وعدم صدور ما يدل على إعراض أحد العاقدين عن التعاقد، والمولاة بين الإيجاب والقبول بحسب العرف.
قرر:
إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد، ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه، وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة أو السفارة (الرسول)، وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس وشاشات الحاسب الآلي (الكمبيوتر) ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله.
إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي، فإن التعاقد بينهما يعد تعاقداً بين حاضرين وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء المشار إليه في الديباجة.
إذا أصدر العارض بهذه الوسائل إيجاباً محدد المدة يكون ملزماً بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه.
إن القواعد السابقة لا تشمل النكاح لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصرف لاشتراط التقابض، ولا السلم لاشتراط تعجيل رأس المال.
ما يتعلق باحتمال التزييف أو التزوير أو الغلط يرجع فيه إلى القواعد العامة للإثبات"().
وهناك فتاوى معاصرة عن التجارة الإلكترونية ومنها:
وعن حكم عمليات البيع عن طريق شبكة الإنترنت جاءت الفتوى عن السؤال: تتم في هذه الأيام عمليات البيع عن طريق شبكة الإنترنت فما الحكم الشرعي في ذلك؟ أفتونا مأجورين؟
والجواب: من شروط البيع: معرفة الثمن، ومعرفة المبيع، حتى تزول الجهالة عن العوض والمعوض، فإن الجهالة تسبب الخلافات والمنازعات، مما يكون له الأثر الظاهر في وقوع العداوات بين المسلمين، والتهاجر والتقاطع والتدابر الذي نهى الله تعالى عنه وحذر منه، وحيث إن معرفة السلع يتوقف تحققها على الرؤية أو الصفة الواضحة، فنرى أنها لا تتبين إلا بالمقابلة والمشافهة ومشاهدة المبيع ومعرفة منفعته ونوعيته، وقد لا يحصل ذلك على التمام، إذا كان التعاقد بواسطة الشاشات أو المكالمات التي يقع فيها التساهل في البيان والمبالغة في مدح الإنتاج، وفي ذكر محاسن المنتجات، كما هو ظاهر في كثير من الإعلانات والدعايات، التي تنشر عبر الصحف والمجلات، فإنها لا تتحقق أو أكثرها عند الاستعمال، وعلى كل حال فإذا تحقق شرط البيان والمعرفة للثمن والمثمَّن وزالت الجهالة، فإنه يجوز التعامل والتعاقد -بيعاً وشراء- بواسطة الهاتف، وبواسطة الشاشة، أو الإنترنت، أو غيرها من الوسائل التي يستفاد منها، وتؤمن المفسدة والغرر والاستبداد بالمصالح واكتساب الأموال بغير حق، فإذا أضيف شيء من هذه المحاذير، لم تجز المبايعة بهذه الوسائل فكم حدث بسببها من الخسارات الفادحة وإفلاس الكثير من ذوي الأموال الطائلة، لما يحصل بعدها من المنازعات والمخاصمات التي انشغل بحلها القضاة والحكام والله أعلم.
قاله وأملاه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله 24 /7/1420هـ().
وعن حكم أسهم الشركات -بيعاً وشراء- عبر شبكة الانترنت جاءت الفتوى عن السؤال: يتم عبر شبكة الإنترنت تداول أسهم الشركات التجارية بيعاً وشراء. فما الحكم الشرعي في ذلك؟
والجواب: الشركات الإسلامية جائزة ومباحة، سواء كانت تجارية أم صناعية، أو زراعية، أو معمارية، أو نحوها، وقد ذكر الفقهاء للشركة خمسة أنواع، وهي: شركة العنان، وشركة المضاربة، وشركة الأبدان، وشركة الوجوه، وشركة المفاوضة. فإذا كانت الشركة قد وضعت رأس مالها في سلع تعرض للبيع والشراء، وتلك السلع مما يباح التعامل فيها، جاز بيع الأسهم فيها إذا كان رأس المال معروفاً، ومقدار السهم المبيع محدداً، فيجوز لمالكه أن يقول للمشتري: بعتك نصيبي من هذه الشركة الذي يمثل نصفها أو عشرها أو ربع العشر أو عشر العشر أو نحو ذلك، فيقوم المشتري مقام البائع، ومتى صفيت الشركة أخذ رأس مال البائع وقسطه من الربح، وهكذا يقال في الشركات الصناعية إذا جعل رأس المال في معدات وأدوات تستعمل في الإنتاج وتسويق ما ينتجونه، فللمساهم أن يبيع نصيبه كله أو بعضه بثمن معلوم يتم قبضه بمجلس العقد، أو قبض سنده، حتى لا يكون بيع كاليء بكاليء، وإذا كان للشركة رصيد من النقود فالأولى عدم بيعه، لئلا يبيع نقداً وسلعاً بنقد وهي مسألة (مد عجوة)، إلا أن يكون يسيراً فيدخل تبعاً، ولا بأس ببيع الأسهم المذكورة بواسطة الأجهزة الجديدة: كالهاتف والإنترنت، إذا تحقق الإيجاب والقبول متواليين، فإن اختل التوالي، أو كان القبول مخالفاً للإيجاب، أو حصلت جهالة في مقدار المبيع، أو لم يحصل قبض العوض أو سنده حال التعاقد، أو كانت الأسهم ربوية كأسهم بعض البنوك، فإن هذا البيع لا يجوز، سواء أكان بواسطة الإنترنت أم المشافهة أو الهاتف أو غير ذلك. والله أعلم.
قاله وأملاه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبر ين، حفظه الله 24 /7/1420هـ().
وبمناقشة ما مضى -من قرارات وفتاوى فقهية في صيغ عقود تجارية إلكترونية- فالذي يظهر لي أن عقد البيع التجاري الإلكتروني بموجب الاتفاق بين طرفي العقد وبهذه الوسيلة التجارية المشروعة على أسس وضوابط وشروط البيع، يظهر لي جواز هذا النوع من الأعمال التجارية بواسطة الشبكة العنكبوتية الإنترنت، في ضوء الإحكام الفقهية السابقة، والله أعلم.
الفصل الثاني
الخدمات التجارية الإلكترونية وأخلاقياتها
وفيه مباحث:
المبحث الأول
خدمة التجارة الإلكترونية بالدعاية والإعلان
وتكييفها الفقهي وأخلاقياتها
الإعلان في اللغة يطلق على إظهار الشيء وإشهاره().
وفي الاصطلاح: يطلق على الدعاية والإعلان التجاري يطلق على مجموعة الوسائل المستخدمة، بقصد التعريف بمشروع تجاري، أو امتداح منتج ما، وبهذا يظهر أنه عملية اتصالية تهدف إلى التأثير من بائع على مشتر بواسطة وسائل الاتصال المستحدثة: كالصحف أو التلفزيون أو الإنترنت، والمعبّر عنها بالإعلان التجاري، حيث يصف السلع وصفاً مبالغاً فيه؛ بقصد الانتشار وجذب المشترين ().
وللدعاية والإعلان التجاري وسائل عدّة:
إما أن يكون ذلك بوسائل مرئية، أو مسموعة، أو مقروءة، حيث تعرض في التلفاز الرائي، وكذلك العروض للسلع أو الهدايا الترويجية، أو المعارض والأسواق، أو اللوحات المضيئة. وهي وسائل إعلانية مرئية كما يكون كذلك بالراديو، ومكبرات الصوت وهي وسائل مسموعة، أو الصحف والمجلات والرسائل البريدية، الإعلانات الكتابية، أو الإلكترونية، أو بطاقات أو ملصقات، مما يسهل العملية التجارية على أفق أوسع وأسرع وأربح، وهي وسائل مقروءة وناطقة().
والتكييف الفقهي للدعاية والإعلان التجاري الإلكتروني: يتضح من أن صور الإعلان التجاري في الفقه الإسلامي "السمسرة" والسمسار الدلال الذي يتوسط بين البائع والمشتري لشراء السلعة أو بيعها() وكذا "البيع بالمزايدة" وصورته "فأما ما يطاف به فيمن يزيد وطلبه طالب، فلغيره الدخول عليه والزيادة فيه()، وقد أجاز العلماء الصورتين السابقتين. فقد قال البخاري رحمه الله "باب أجرة السمسرة، ولم ير ابن سيرين بأساً. قال ابن عباس: لا بأس أن يقول: بع هذا الثوب، فما زاد على كذا وكذا فهو لك، وقال ابن سيرين: إذا قال: بعه بكذا، فما كان من ربح فلك، أو بيني وبينك، فلا بأس به()، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم"()، وهذا دليل على أن السمسرة صورة من صور الإعلان التجاري قديماً وحديثاً، سواء على السير بالأقدام أو على الإنترنت أو التلفاز والصحف وغيرها.
وإذا عرض البائع سلعته في السوق عن طريق المزايدة، فهو بيع جائز؛ لعموم الحديث الصحيح "أن رجلاً اعتق غلاماً عن دُبر، فاحتاج، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا فدفعه إليه"()، وهذه صورة من صور الإعلان التجاري؟ لأنه يتم عرض السلعة لكي يتنافس عليها المشترون من غير غش ولا كذب ولا غبن أو تدليس.
وهذا التنويه المعلن عنه بسبب الجودة أو المنافع والحث على الشراء ومدى شرعيته المعبّر عنه بالإعلان التجاري الإلكتروني قد أوضحته بعض الفتاوى المعاصرة، حيث جاء فيها: "إن الإعلان عن التجارة والتعريف بها أمر جائز شرعاً، ولا حرج على المعلن في إعلانه ولا في الثناء على تجارته ما لم يخالف في ذلك المقاصد الشرعية للتجارة"() وقد أصبح هذا النوع من التعامل التجاري الإلكتروني سائغاً.
وبمناقشة ما مضى يظهر لي أن الفقه الإسلامي لم يحرم الإعلان تحريماً مطلقاً، بل حدد له منهجاً ثابتاً، وهو تحقيق النفع، ودفع الضرر، ضمن قواعد منع الضرر، ومنها: درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة، ولا ضرر ولا ضرار، وأن تكون الدعاية والإعلان بالوسائل المباحة، وعدم الكذب أو الغش أو الخداع، والقدرة على توصيل السلعة المعلن عنها، وعدم التغرير()؛ امتثالاً للحديث "فإن بينا وصدقا بورك لهما، وان كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"().
المبحث الثاني
خدمة الانترنت التجارية الالكترونية
وتكييفها الفقهي وأخلاقياتها
يقصد بمقدمي خدمة الإنترنت الإلكترونية: الجهة التي تقدم للمستخدمين المزودين بحاسبات آلية الدخول إلى الخطوط السريعة للإنترنت، سواء أكانت حكومية أم خاصة. فهي تؤمن لهم الخدمة الإلكترونية بموجب عقود اشتراك نظير أجر معين.
وتقدم مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية -القناة الرئيسية- خدمة الإنترنت بالمملكة العربية السعودية، وتقدم ضماناً للخدمة يغطي الأعطال التي تكون مسؤولة عنها، وتعوض كل ساعة عطل بأجر ساعتين، ولا يشمل هذا الضمان انقطاعات المدينة التي يكون الخط الخارجي هو المسؤول عنها().
وتهدف هذه الخدمة إلى التحليل والاستخراج و العمل على زيادة الطلب، وإدارة الطلبيات التجارية والتنفيذ والدفع وخدمة الزبائن().
والتكييف الفقهي لهذه الخدمة الإلكترونية (الإنترنت)، عقد إجارة شرعية بين مقدم الخدمة وبين المشتركين وفق شروط الإجارة الجائزة، من كون المنفعة معلومة ومباحة، ومملوكة أو مأذون فيها، والتراضي بين طرفي العاقدين وكون العوض معلوماً، وهي متوافرة في هذه الخدمة، كالأجير المشترك الذي يلتزم بتقديم خدمات الإنترنت ويعمل لهم ويضمن، وهذا عقد إجارة جاهزة؛ لعموم قوله تعالى: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)()،
ومقدم خدمة التجارة الإلكترونية أجير ينطبق عليه شرط الأجير المشترك، ويستدل -أيضاً- بقوله تعالى: (إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)()، ومقدم الخدمة الإلكترونية قدم تجارة برضى، ولأن مقدم الخدمة الإلكترونية -في هذه المعاملة التجارة المعاصرة- يقبل أعمالاً لأفراد وجهات متعددة يشتركون في منفعته، فيستحق الأجر مقابل ذلك().
وعند توافر شرط الإجارة يكون ذلك الأجير المشترك ملتزماً وضامناً لكافة الخدمات الإلكترونية التي وقعت في العقد التجاري الإلكتروني.
وأخلاقيات هذه الخدمة تبين مما أكده د. عبد الرحمن بن عبد الله السند الأستاذ المساعد في المعهد العالي للقضاء والمتخصص في الأحكام الفقهية للتعلاملات الإلكترونية أن اختراق البريد الإلكتروني خرق لخصوصية الآخرين وهتك لحرماتهم، وتجسس على معلوماتهم وبياناتهم التي لا يرغبون في أن يطلع عليها الآخرون.
وقال: إن الشريعة الإسلامية نهت عن التجسس والاطلاع على أسرار الناس وهتك حرماتهم؛ لأن الشريعة كفلت الحقوق الشرعية للإنسان وحرمت الاعتداء عليها بغير حق.
إن الله جل جلاله نهى عن التجسس فقال سبحانه: (وَلَا تَجَسَّسُوا)، ونهت الشريعة الإسلامية عن الاطلاع على أسرار الناس وهتك حرماتهم، وهذا موافق لمقاصد الشريعة الإسلامية التي جاءت بحفظ الدين والعرض والمال والنفس والعقل().
المبحث الثالث
خدمة التجارة الإلكترونية
بالبطاقات الائتمانية المصرفية وأخلاقياتها
المقصود بالبطاقات الائتمانية:
البطاقة الائتمانية: بطاقة خاصة يصدرها المصرف لعملية تمكنه من الحصول على السلع والخدمات من محلات وأماكن معينة عند تقديمه لهذه البطاقة، ويقوم البائع بتقديم الفاتورة الموقعة من العميل إلى المصرف المصدر لها فيسدد قيمتها له، ويقدم المصرف للعميل كشفاً شهرياً بإجمالي القيمة؛ لتسديدها أو خصمها من حسابه الجاري لديه().
أما الشق الثاني والائتمان "فهذا الاصطلاح يعني -بوجه عام- منح دائن لمدين مهلة من الوقت يلتزم المدين بانتهائها بدفع قيمة الدين.
وفي الشؤون المالية يعني الائتمان -عادة-: قرضاً أو حساباً على المكشوف، يمنحه البنك لشخص ما، كما يعني حجم الائتمان: المقدار لكل القروض والسلف التي يمنحها النظام المصرفي().
وأصل الائتمان كلمة عربية صحيحة، "هو الثقة التي تشعر الناس أن فلاناً مليء" "وهو التزام يقطعه مصرف لمن يطلب منه أن يجيز له استعمال مال معين؛ نظراً للثقة-التي يشعر بها نحوه"().
والائتمان مصطلح قد يستهجنه من يقف باللغة عند حد النقل ويأبى إلا أن يتمسك بالقديم().
وتتنوع البطاقات الائتمانية إلى أنواع، منها: الفيزا، الماستر كارد، الدايز كلوب، الأمريكان اكسبرس وغيرها().
والتكيف الفقهي لبطاقات الائتمان على أنها: الضمان، والضمان في البطاقة الائتمانية كفالة يصالح فيها الكفيل الدائن على أقل من مبلغ الدين، ثم يرجع على المكفول بما ضمن لا بما أدى().
والكفالة بالدين جائزة، وقد أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة().
ولا يلزم في الكفالة تحديد مبلغ معين، فتجوز الكفالة بالمجهول. جاء في الكافي في فقه() الإمام أحمد: "ويصح ضمان المعلوم والمجهول قبل وجوبه وبعده؛ لقوله تعالى: (وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ) وحمل البعير يختلف.. وقد ضمنه قبل وجوبه".
ويشترط مصدِّر البطاقة، وجودَ الموافقة من حاملها على الدفع (بالتوقيع على القسيمة أو غير ذلك، مما يدل على الرضا)، والغرض من هذه الإجراءات هو التأكد من ثبوت الدَّين في ذمة حامل البطاقة().
وفي مجمع الضمانات() "ويجوز تعليق الكفالة بالشرط، مثل أن يقول: ما بايعت فلاناً فعليَّ، قال: والأصل أنه يصح تعليقها بشرط ملائم، مثل أن يكون شرطاً لوجوب الحق، كقوله: إذا استحق المبيع..".
تكييف عمولة الخدمات الأخرى:
أما بقية المدفوعات: فهي إما مدفوعة من العميل أو من أصحاب البضائع والخدمات، وقد رأينا أن الرسوم والمصاريف المدفوعة من العميل عبارة عن أجر عن خدمات، فهي وكالة بأجر، والخدمات هي: التعريف بالعميل، وتجهيز البطاقة، وإرسال الإشعارات... إلخ. وهناك رسوم وعمولات يدفعها أصحاب البضائع والخدمات لقاء اشتراكهم في الاستفادة من عملاء البطاقة، وهي خدمة سمسرة، أو لقاء الأجهزة المقدمة للمحلات، وهي -أيضاً- خدمة تستحق الأجرة.
تكييف العمولة عن الدفعات النقدية:
هذه العمولة هي نسبة من المدفوعات النقدية التي يحصل عليها حملة البطاقات في أسفارهم بواسطة الأجهزة أو البنوك المتعاملة مع شركة البطاقة، وهي تقتسم بين شركة البطاقة وبين البنوك التي لها إسهام في العملية.
وهناك رأيان شرعيان فيها: أحدهما: منع تقاضي هذه العمولة، لأنها عملية قرض من شركة البطاقة أو من البنك الوكيل، وهذه العمولة مقابل القرض فهي فائدة، وقد ذهبت إلى هذا الرأي الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار، وأوجبت على الشركة حين وصول هذه العمولة إليها أو جزء منها (حيث تقتسم بين الجهات المشاركة في العملية) بأن تقوم شركة الراجحي بتسجيلها للعميل في حسابه، أي تردها إليه. وإذا كانت هذه العمولة تتعلق ببطاقة صادرة من غير شركة الراجحي، فعلى الشركة قيد هذه العمولة في حساب الأعمال الخيرية خروجاً من الشبهة (القرار رقم 50 بتاريخ 6/12/1410هـ).
وفيها عملية المصارفة أيضاً، حيث إن هذه المسحوبات هي لعملات البلاد المختلفة التي تستخدم فيها البطاقة خارج بلد حاملها.
والرأي الشرعي: هو ما جرت عليه هيئة الفتوى والرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي من أن هذه العملية ليست قرضاً إلا في الحالات النادرة ولمدة قصيرة جداً، وإنما هي توصيل لأموال العميل من حسابه إلى المناطق التي يستخدم فيها البطاقة، وهذه العمولة هي أجر لتحويل العملات من بلد إلى بلد. وإن كانت العملية تتم معكوسة لتسهيل الأمر، فإن البنوك الوكيلة لشركة البطاقة تدفع النقود ثم تسترد ما دفعته، لكي تحقق السرعة بل الفورية المطلوبة في هذه العملية. وهناك أجل متخلل بين الدفع والاستيفاء لكنه ليس مقصوداً في العملية ولا هو من صميمها، والشأن في هذا الأجل أن يسبق دفع المبالغ النقدية، لكنه لا يمكن ضبطه؛ لذا عكس الأمر، وتم الدفع ثم الاستيفاء. وهذا الرأي هو الراجح في نظري، فإن الأجل المتخلل بين القبض والتسديد ليس عنصراً أساساً في العملية، ولو أتيح الاستيفاء الفوري (بوسائل الاتصال الحديثة) لما اختلفت العملية القائمة عن أن الدفع هو من حساب العميل وليس تسليفاً له.
ولا يخفى أن في هذه العملية كفالة من البنك الذي يصدر البطاقة نيابة عن شركتها العالمية، فهو يكفل عميله وأداء ما عليه مع حق الرجوع، وهذه الكفالة من نبيل التبرعات، فلا يؤخذ عليها مقابل.
البديل الإسلامي لبطاقة الائتمان وأمثلة تطبيقية على ذلك:
ليس من الضروري أن يكون البديل لما يستبعد من التطبيقات أمراً مغايراً بالذات وجميع الصفات، فإن ما أمكن تعديله لا يتحتم تبديله، على أن الصيغة المعدلة هي نفسها بديل للصورة المشتملة على محاذير شرعية.
ثم إن إيجاد بديل مختلف تماماً عن نظام البطاقات ربما لا يؤدي الغرض النوعي منها، وهو تداولها عالمياً، ووجود أطراف متعددة الجنسيات ترعاها وتكفل استخدامها.
ولذا فإن البديل لبطاقات الائتمان هو الصيغ المعدلة لها، والتي تم تعديلها بمعرفة هيئات شرعية وعسى أن يتمخض عن التداول الجماعي في شأن هذه البطاقات وتعديلها بصيغة تحقق الهدف المادي والغرض المعنوي في تطبيق مقررات الشريعة الإسلامية على جميع التصرفات والممارسات.
فقد عرضت الاتفاقيات المتعلقة ببطاقة الائتمان التي عزم بيت التمويل الكويتي على إصدارها باسم (فيزا التمويل) وأجريت التعديلات الشرعية عليها وعلى شروط البطاقة، وخصوصاً شرط فوائد التأخير، حيث حذف، وربطت البطاقات بحساب العملاء، مع التزام اشتمالها على سداد ما يستخدمون بالبطاقة للشراء: إما مسبقاً، أو عند وصول (الفواتير)، وإذا لوحظ انكشاف الحساب أًشعِرَ العميل لتأمين رصيد لتلك المديونية. ولكن بقي أمر لم تصل الهيئة الشرعية إلى حل له، وهو: حصول حامل البطاقة على ميزة التأمين على الحياة؛ لأنه لا زال محل بحث في المجامع الفقهية، وقد أُوصِيَ بتأمين مزايا أخرى معادلة لذلك إلى أن يوجد الحل الشرعي لذلك. واشتملت عمليات البطاقة على وكالة بأجر، وكفالة مجاناً، وقرض يسير أحياناً.
أما الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار: فقد عرض عليها موضوع إصدار بطاقة ائتمان بمعرفة الشركة (وهي بطاقة فيزا أيضاً) بعد أن حذف منها بند (فوائد التأخير) وأجري تعديل أو تنبيه بشأن الدفعات النقدية بالبطاقة، وكذلك سداد الفواتير وهو: "في حالة عدم وجود تسهيلات للسحب على المكشوف يفوض العميل الشركة أن تخصم من التأمين النقدي أي مبالغ لا يوجد لها مقابل بحسابه الجاري الدائن، على أن يلتزم بتأمين هذا المبلغ في الحال؛ لتكملة مبلغ التأمين المقرر عليه". ويجب أن يكون معلوماً للعميل بأن حصوله على بطاقة فيزا لا يمنحه حق التسهيلات على السلف أو السحب على المكشوف، وأن مثل هذه الامتيازات تعامل كخدمة منفصلة تماماً عن خدمة بطاقة الفيزا، وللحصول عليها يمكنه التقدم بطلب للفرع المعني، حسب النظام المتبع لدى الشركة في هذا الخصوص.
ولما عرضت الشروط على الهيئة الشرعية أصدرت قرارها رقم 32 بتاريخ 26/10/1410هـ، ونصه: "لم يظهر للهيئة -من الناحية الشرعية- ما يوجب الاعتراض على قيام شركة الراجحي بإصدار بطاقة فيزا، بشرط ألا يترتب على قيامها بذلك أخذ أو إعطاء أي فائدة محرمة بشكل ظاهر أو مستتر، سواء أتم ذلك مع عملائها أم مع شركة فيزا العالمية، أو شركة الخدمات المالية العربية التي ستقوم بالوساطة الفنية أو الحسابية بين شركة الراجحي المصرفية للاستثمار وشركة فيزا العالمية أو غيرهم من أطراف المعاملة.
أما كون فوائد التأخير محرمة: فهو محل اتفاق، وهو من ربا الجاهلية، وهو ما يدعى قاعدة (زدني أنظرك).. والله أعلم().
وتظهر أخلاقيات خدمات التجارات الإلكترونية في شتى المعاملات في أمور، منها: أن المعاملات المالية في البنوك الإسلامية هي من أهداف البنك الإسلامي الذي يوجه مدخراته للاستثمار في خطط التنمية عن طريق المساهمة في أموال حقيقية، وليس عن طريق (خلق) ائتمان من دون إضافة لكمية النقود التي يجري عليها العمل في البنوك الإسلامية والأساليب والوسائل المختلفة للتوظيف والاستثمار فيها ومن أهمها: التمويل بالمشاركة، المضاربة الشرعية، البيع بالمرابحة...
ومن التعامل في الأسواق الخارجية، يتبين أن ذلك يتم عن طريق الشراء الحالي، وأخذ مراكز في هذه الأسواق تتم تصفيتها إما عن طريق الاستلام للبضائع وبيعها للغير بضاعة حاضرة، أو بيعها -عند تمام الشراء- بأجل بشرط حيازة البنك للبضائع فعلا.
أما بالنسبة للتعامل في المعادن مثل الذهب أو الفضة: فإن ذلك يتم بالشراء ودفع كامل القيمة دون سداد جزئي (مارج)، وبحصول البنك على إثبات ملكيته للذهب أو الفضة يمكنه البيع بالأجل، أو يبيع عن طريق عقد وعد بالشراء من العميل ووعد بالبيع من البنك، ويتم سداد قيمة البيع عند حلول الأجل بالكامل، وتتم هذه العمليات في الأسواق العالمية عن طريق مراكز التعامل في الذهب والفضة.
والأسس المحاسبية والمصرفية والشرعية في احتساب عائد حساب الاستثمار التي يتم على أساسها إعداد الميزانية وحساب الأرباح والخسائر والتوزيع في البنوك الإسلامية، تؤكد أن العلاقة بين البنك الإسلامي وأصحاب حسابات الاستثمار لا تدور على أساس علاقة الدائن والمدين، ولكنها تدور على أساس المشاركة بين الطرفين في إطار المضاربة الشرعية، وما يرزق الله به من ربح يكون بينهما بالنسبة التي يحددها طرفا المضاربة. أما الخسارة: فإنها على رب المال، ما لم يثبت أن المضارب (الشريك بعمله) قصر أو خالف ما شرطه رب المال، فإنه يضمن الخسارة حينئذ.
وبالنظر إلى التطبيقات المعاصرة للبطاقة الائتمانية وخدماتها في المعاملات الإلكترونية نجد أنها تؤدي عملاً وسيطاً مهماً في الاقتصاد المعاصر، ولكن ينبغي أن يؤخذ بالجوانب الشرعية أثناء التطبيق، إضافة إلى أخلاقيات التاجر الصدوق والأمين؛ حتى يجني ثمارها وفق منهج إسلامي رشيد().
المبحث الرابع
خدمة التجارة الإلكترونية
بالاعتمادات المستندية وأخلاقياتها
وفيه مطلبان:
المطلب الأول
خدمة الاعتمادات المستندية تعريفها وأنواعها
الاعتماد مأخوذ من اعتمد الشيء، بمعنى اتكأ، ويقال: اعتمد الأمر وافق عليه، وأمر بإنفاذه، والاعتماد يستعمل بمعنى الائتمان أو التسهيل أو الضمان.
والمستند مأخوذ من السند، فيقال: سند إليه، ركن إليه، واعتمد عليه، واتكأ.
وهو عبارة عن وثيقة يوجهها مصرف إلى أحد مراسليه في الخارج يدعوه فيها إلى أن يدفع مبلغاً معيناً من النقود، أو يمنح قرضاً، أو يفتح اعتماداً للمستفيد.
وتقسم الاعتمادات إلى أقسام بأوضاع مختلفة، فمنها: اعتمادات التصدير والاستيراد، والاعتماد القطعي والقابل للإلغاء، والاعتماد المستندي بالاطلاع أو القبول().
المطلب الثاني
التكييف الفقهي لخدمة الاعتمادات المستندية وأخلاقياتها
إن فتح الاعتماد فيه خدمة يؤديها المصرف المحلي للطالب وكفالة له تجاه المصرف الأجنبي، الذي يقوم هو بأداء ثمن البضاعة المستوردة للمنتج البائع، بناء على كفالة المصرف الأول. والرأي الشرعي فيه -فيما يبدو- أنه إذا اقتصر فيه على أخذ المصرف الأول عمولة يتفق عليها، سواء أكان مقدارها نسبياً أم مقطوعاً، من دون أن تحتسب فيه فوائد على الطالب. فهي عملية جائزة شرعاً.
أما بالصورة المشروحة التي تتم بها اليوم: فإنها في المرحلة التي يصبح فيها المصرف دائناً للطالب بما تمت تأديته عنه فعلاً، ويرتب المصرف فائدة جارية عليه، هذه المرحلة فيها بداخلها -عندئذ- قرض بفائدة، فتصبح من هذه الناحية حراماً.
والموسوعة الفقهية الكويتية في الجزء النموذجي الثالث (243 - 246) قد ارتأت جواز فتح الاعتمادات المستندية من أعمال المصارف، تخريجاً على أساس أنه توكيل ورهن: أي توكيل من طالب فتح الاعتماد للمصرف ورهن البضاعة لديه، أو على أساس أنه توكيل وحوالة: المحيل فيها طالب فتح الاعتماد، والمحال عليه هو المصرف فاتح الاعتماد، أو على أساس أن فتح الاعتماد عقد جديد مستحدث لا نظير له في العقود القديمة، ولا مانع منه شرعا. لكن الموسوعة افترضت العملية في صورتها البسيطة، حيث يدفع التاجر -طالب فتح الاعتماد- جميع ثمن البضاعة إلى المصرف الأول -الوسيط المحلي- مقدماً، أو في الحالة التي يقبل فيها المنتج -البائع- في بلد المصدر كفالة المصرف ويشحن البضاعة قبل أن يقبض ثمنها، ثم بعد وصول وثيقة الشحن إلى المصرف الكفيل في بلد الاستيراد، يؤدي التاجر الطالب الثمنَ كاملاً، عن طريق المصرف، ويتسلم وثيقة الشحن، ولا شك -عندئذ- في جواز العملية بجميع مراحلها.
ما يدخل في المرابحة الخارجية:
بحسب طريقة المرابحة الخارجية مع الآمر بالشراء، يحدد التاجر مطلوبه الاستيرادي والمصدر، ويطلب من البنك الإسلامي استيراد البضاعة لنفسه باسمه هو (أي البنك)، ويتفق الطالب معه على أن يشتريها منه بعد وصولها بربح معين، وقد تم تخريج هذه الطريق -فقهياً- على أساسين من مذهبين:
* الأساس الأول: قاعدة الوعد الملزم عند المالكية.
*الأساس الثاني: نص الإمام الشافعي رضي الله عنه في ألامِّ على جواز أن يقول الرجل لآخر اشتر هذا الشيء من صاحبه، وبعه مني بربح كذا (ينظر كتاب الدكتور سامي حمود: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية ص/480 الطبعة الأولى). و (نظام البنك الإسلامي الأردني وأنواع معاملاته - بند المرابحة الخارجية).
وقد أقرت هذا النظام لجنة الفتوى الشرعية بوزارة الأوقاف والمقدسات والشؤون الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية، وطريقة المرابحة الداخلية والخارجية فيه. وهي - فيما أرى - طريقة سليمة بالنظر الإسلامي لا شائبة فيها، وتحل مشكلة فتح الاعتمادات بحسب القواعد الفقهية، مستفيدة من المذاهب الفقهية المعتمدة التي في اختلاف الأنظار بين أئمتها وأتباعها سعة شرعيه ورحمه().
إنه بالنسبة للاعتمادات المستندية بالذات، وهي التي ترد المطالبات عليها بشكل مؤكد غالباً، فإن مجموع قيم وثائق الشحن غير المسددة تتوازى غالباً مع مجموع التأمينات المودعة من العملاء، ومعنى هذا أن العملاء يغذون موارد استدانتهم بأموالهم بصورة تلقائية().
وقد أجازت اللجنة الفقهية في الموسوعة الفقهية الكويتية جواز فتح الاعتمادات المستندية على أنها من أعمال المصارف، حيث إنها من التوكيلات والرهون أو إنها توكيل وحواله، أو عقد جديد مستحدث لا نظير له في العقود الفقهية القديمة، ولا مانع منه شرعا().
الفصل الثالث
حقوق الملكية الفكرية وحماية المستهلك وأخلاقياتها
وفيه مبحثان:
المبحث الأول
حقوق الملكية الفكرية وأخلاقياتها وتكييفها الفقهي
وفيه مطالب:
المطلب الأول
المراد بحقوق الملكية الفكرية ومشتملاتها وأخلاقياتها
حقوق الملكية الفكرية في لسان أهل اللغة:
الحقوق: جمع حق، والحق: خلاف الباطل، وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وفي الاصطلاح: هو الحكم المطابق للواقع..
ومن ذلك: حقوق الاتفاق والاختصاص والملك().
وفي الأصول التجارية والمالية والمعنوية: ما يتعلق بالملكية الأدبية، مما له قيمة في الشرع، بيعاً وشراء وتجارة، ومن ذلك: ما يتحقق في العرف الإلكتروني المعاصر بشتى صوره، كما يطلق عليها الملكية الفكرية().
والملكية في اللغة: مأخوذة من الفعل ملك يملك تملكاً وملكاً والمعنى: احتواء الشيء، والقدرة عليه، والاستبداد به، والتصرف به().
وفي الاصطلاح الفقهي: قدرة يثبتها الشارع ابتداء على التصرف، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تعريفاً للملك فقال: (الملك هو القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة)().
وهذا تعريف جامع ومانع، فهو جامع لماهية الملكية من حيث الابتداء في الحيازة والاحتواء، لأن القدرة الشرعية جامعة للتصرفات الشرعية().
والإنتاج الفكري: هو الصور الفكرية التي تفتقت عنها الملكة الراسخة في نفس العالم أو الأديب ونحوه، مما يكون قد أبدعه هو، ولم يسبقه إليه أحد.
والصور الفكرية المبتكرة أثر للملكة الراسخة، وليست عينها، بل فرع عنها وناتجة منها، وهذا ملحظ دقيق تجب مراعاته في الاجتهاد وفي تأصيل الأحكام().
والملكية الفكرية تشمل الحقوق المتعلقة بالمصنفات الأدبية والفنية والعلمية، والعلامات التجارية، وعلامات الخدمة، والأسماء والسمات التجارية والأسرار التجارية، والاكتشافات العلمية وبراءات الاختراع في جميع مجالات الاجتهاد الإنساني والرسوم والنماذج الصناعية.
أخلاقيات الحقوق الفكرية:
يشترط في النتاج الفكري أن يكون على قدر من الابتكار، فالإنتاج المبتكر لا يشترط فيه أن يكون متسماً كله بالابتكار والإبداع، بل يكفي فيه أن ينطوي على قدر من التجديد، وألَّا يكون تكراراً، ولا محاكاة لصور أخرى سابقة، إذ لا بد في كل مبتكر ذهني من أن يكون مؤصلاً على ثقافة ساهم في تكوينها ابتكارات سابقة، وتراث علمي، فيختلف الابتكار -نوعية وأثراً- بمدى القدر المحدث فيه وجودته، ومبلغ الجهد المبذول ومستواه، فالابتكار نسبي لا مطلق.
ويشترط في النتاج الفكري -ليكون جديراً بالحماية- أن يكون على قدر من الابتكار، وليس مبتكراً().
ويشترط - أيضاً - في النتاج الفكري ليكون جديراً بالحماية أن يكون في مجال العلوم النافعة، إذ أن الإسلام، - وهو يقرر أن العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة -، يقرر - في الوقت ذاته - نوعية العلم الذي يجب إعمال الذهن في تحصيله وابتكاره، وذلك بأن يكون نافعاً، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً)()، واستعاذ عليه الصلاة والسلام من علم لا ينفع، ففي الحديث: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع(). ومن ذلك: الحقوق الفكرية في التجارة الإلكترونية.
المطلب الثاني
التكييف الفقهي لحقوق الملكية الفكرية
والتكييف الفقهي للإنتاج الذهني المبتكر: أنه أقرب شبهاً بالثمرة المنفصلة عن أصلها، إذ الإنتاج المبتكر ينفصل عن صاحبه ليستقر في كتاب أو نحوه فيصبح له بذلك كيان مستقل وأثر ظاهر. مما يؤكد كون الإنتاج الفكري - في نظر الإسلام - من قبيل المنافع.
وبالنظر في آراء الفقهاء في الحقوق الذهنية والمعنوية والفكرية فإنه -نتيجة لتطور الحياة الاقتصادية والمدنية والثقافية الحديثة - ظهر ما يسمى بالحقوق المعنوية، فهل محل هذه الحقوق داخل في مسمى المال في الشريعة الإسلامية؟ اختلف الفقهاء في ذلك.
ويبدو لي أن جمهور الفقهاء: المالكية والشافعية والحنابلة -: الذين لا يشترطون أن يكون محل الملك شيئاً مادياً معيناً بذاته في الوجود الخارجي، بل هو كل ما يدخل في معنى المال من أعيان ومنافع، ومعياره أن يكون له قيمة بين الناس، ويباح الانتفاع به شرعاً - يذهبون إلى أن هذه الحقوق تُعَدُّ حقاً مالياً متقوماً في ذاته، كالأعيان سواء بسواء، وتأسيساً على ذلك ترد عليه العقود الناقلة للملكية، ويضمن بالغصب، بمعنى أنه تقرر مسؤولية غاصب مصادره ومطالبته بالتعويض، ويجري فيه الإرث على الجملة().
وفي الحديث: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(). فالعلم عمل، وهو مصدر للمنفعة شرعاً، يبقى أثراً خالداً بعد وفاة صاحبه. والعلوم الإلكترونية في التجارات داخلة في ذلك.
ففي الحديث: دلالة على أن العلم مصدر الانتفاع، وأن الانتفاع المستمر بإنتاج العالم، يكون استمراراً لعمله الصالح الذي لا ينقطع بالموت، فالعلم هو مصدر للمنفعة شرعاً، يبقى أثراً خالداً بعد وفاة صاحبه، وانهدام ملكته العلمية بالموت().
والمال: ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة، ويُستنتج منه أن المنظور إليه في مالية الأشياء وليس هو عينية الشيء المادي، بل منفعته وأثره، فإن ما لا منفعة فيه، ليس بمال، أي ولو كان شيئاً عينياً، فمناط المالية - إذن- هو المنفعة لا العينية.
فالقيمة - إذن - منوطة بالمنفعة التي هي أصلها ومستندها، والمنفعة أمر معنوي، فحيث تكون المنفعة تكون القيمة، أي تكون المالية، بل المنفعة هي معيار للقيمة ومقدارها.
المبحث الثاني
حماية المستهلك وأخلاقيات التعامل فيه
لقد اشتملت كتب الفقه الإسلامي على أخلاقيات التعامل التجاري وحماية المستهلك، ورتبت عليها أحكاماً شرعية وعقوبات في الدنيا والآخرة.
فمن أهمية حماية المستهلك والتعامل معه: ما ذكره الغزالي: "فالقيام بحقوق الله مع المخالطة والمعاملة مجاهدة، لا يقوم بها إلا الصديقون، وسلوك طريق الحق هذا في التجارة أشد من المواظبة على نوافل العبادات والتخلي لها"().
ولكن هل هناك من منهج يجعل تحقيق ذلك في دنيا التجارة أمراً ممكناً وواقعاً قائماً؟ نعم: والمنهج يرتكز على دعامة نفسية ودعامة موضوعية عملية.
يقول الغزالي: "ولن يتيسر ذلك على العبد إلا بأن يعتقد أمرين: أحدهما أن تلبيسه العيوب وترويجه السلع لا يزيد في رزقه، بل يمحقه ويذهب ببركته، وما يجمعه من مفرقات التلبيسات يهلكه الله دفعة واحدة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "البيعان إذا صدقا ونصحا بورك لهما في بيعهما، وإذا كتما وكذبا نزعت بركة بيعهما"().
وعن أهمية الصدق في سعر الوقت أثناء التجارة: يذكر الغزالي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في النهي عن تلقي الر كبان، وعن النجش، وعن بيع حاضر لباد، يبين أنه لا يجوز للمتعامل - بائعاً كان أو مشترياً - أن يكذب في سعر السوق، قائلاً: "ومن قنع بربح قليل كثرت معاملاته، واستفاد من تكررها ربحاً كثيراً"().
وقد نبه الغزالي على أهمية المسامحة في استيفاء الثمن وسائر الديون وبين وجه الإحسان في ذلك من منع الخصومات، ومنح الإمهال والتأخير. بعيداً عن الاحتكار بما يجلبه من مضار، بعيداً عن الإعلان والترويج غير الصالح، بعيداً عن سائر وجوه الغش، بعيداً عن المغالاة في الأرباح، يسلك كل من المشتري والبائع سلوكاً عقلياً رشيداً، يتحلى بوجود الائتمان والمسامحات، بحيث تشيع المعرفة الحقيقية بأحوال السلع والأسعار، للسلع الضرورية بما يحقق مكانة خاصة من الرعاية والاهتمام. لا مجال فيها لمحلات تتعامل في المحرمات، وعلى المحتسب أن يمنع من كل تلك الانحرافات().
ومن صور الحماية للمستهلك - كما ورد في عبارات الفقهاء -: العبرة بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، ومن ذلك اشتراط الرضى في العقود، وتحريم الغش والغبن والظلم.
والعقود المذكورة في كتب الفقه، ليست هي العقود الجائزة حصراً؟ لأن ثمة قاعدة فقهية هامة، وهى [أن العبادات مبناها على التوقيف]، فلا بعبد الله إلا بما شرع، وأما المعاملات: فالأصل فيها الحل، ما لم يرد نص على تحريمها().
وقد أكد الدمشقي على ضرورة أن تتم عملية البيع في الوقت المناسب وأن تؤخذ توقعات المستقبل في الحسبان. وفي هذا الصدد ينقل عن الخليفة المأمون موقفاً اقتصادياً، فقد أمر بالإسراع ببيع غلات بيت المال عندما توقع لها المزيد من الانخفاض في أسعارها في الأيام المقبلة؛ لوفرة إنتاجها().
وأكد الدمشقي على أن التوكيلات التجارية وبعض الأعمال التجارية لاسيما عمليات التصدير والاستيراد تتطلب وجود ما نسميه اليوم بالوكالات التجارية. ويجب على الركَّاض - المستورد - إذا دخل بلدة لم يعرفها أن يكون قد تقصى عن الوكيل المأمون().
واعلم يا أخي، أن من أعظم المباديء والقواعد في تنظيم التجارة على مستوى الأفراد أو الدول أن تقوم على الشفافية الكاملة، وبقدر الالتزام بهذا المبدأ في التجارة توصف بأنها ناجحة أو غير ذلك، كما توصف الأمة بالتقدم والتحضر في هذا المجال أو غير ذلك.
كذلك يجب إصلاح أجهزة الضبطية العدلية؛ لاستئصال الفساد الداخلي وزيادة احترام كرامة الإنسان، وهناك - أيضاً - مجال الإصلاح الأخلاقي، ووضع قواعد مسلكية لمسؤولي الحكومة وقواعد التصريح عن الوضع المالي قبل تسلم هؤلاء مهام مناصبهم().
وفي حماية المستهلك وأخلاقيات التعامل بيّن الشيخ محمد حسنين مخلوف - في فتاوى شرعية - أنه يجب على البائع أن يبين للمشتري ما في السلعة التي يريد شراءها من العيوب إذا كان بها عيوب، وكتمانها عنه غش وخداع وتلبيس، وهو محرم بالإجماع().
وعن إقامة المعاملات الائتمانية والإلكترونية في البنوك وحماية أصحابها جاء عن الشيخ مخلوف() أيضا: أنإتحويل المرتبات إلى المصرف في الحساب الجاري من دون أخذ فائدة ربوية نتيجة تعاقد بين المودع والمصرف على إيداع هذه المبالغ أمانة لديه، - ومن شأنها ألا توظف في معاملاته الربوية، - فلا يعدُّ المودع بذلك مساهما في المصرف، لأن وديعته أمانة كسائر الأمانات، وليست من رأس مال المصرف الذي يجري فيه التعامل بالربا المحرم مع آخرين.
وهو بمثابة أن يودع الإنسان مالاً على سبيل ألأمانة عند تاجر يتعامل حلالاً مع قوم، وبالربا مع آخرين، فإيداع المال عنده شيء، وتعامله هو بالربا مع عملائه شيء آخر. وكذلك إيداع الأمانات من غير المساهمين في المصرف، غير توظيف أموال المساهمين بالربا المحرم، والأول جائز، والثاني محرم.
وعن حكم تحويل النقود عن طريق البنوك: أفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - مفتي السعودية - فقال: إذا دعت الضرورة إلى التحويل عن طريق البنوك الربوية فلا حرج في ذلك إن شاء الله؛ لقول الله سبحانه: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) الأنعام (119).
ولا شك أن التحويل عن طريقها من الضرورات العامة في هذا العصر وهكذا الإيداع فيها للضرورة من دون اشتراط الفائدة، فإن دفعت إليه الفائدة من دون شرط ولا اتفاق فلا بأس بأخذها وصرفها في المشاريع الخيرية مساعدة الفقراء والغرماء ونحو ذلك، لا ليتملكها أو ينتفع بها، بل هي في حكم المال الذي يضر تركه بالمسلمين، مع كونه من مكسب غير جائز، فصرفه فيما ينفع المسلمين أولى من تركه للكفار يستعينون به على ما حرم الله، فإن أمكن التحويل عن طريق البنوك الإسلامية أو من طرق مباحة لم يجز التحويل عن طريق البنوك الربوية، وهكذا الإيداع إذا تيسر في بنوك إسلامية أو متاجر إسلامية لم يجز الإيداع في البنوك الربوية؛ لزوال الضرورة. والله ولي التوفيق().
الفصل الرابع
حماية التجارة الإلكترونية
وفيه مبحثان
المبحث الأول
حماية التجارة الإلكترونية في الشريعة الإسلامية
لقد حمت الشريعة الإسلامية المعاملات التجارية من كل أنواع التدليس والكذب والغش، وحرمت كافة أنواع غسيل الأموال التجارية، وأوجبت وسائل السلامة في التعامل التجاري؛ حتى يكسب المال حلالاً - وهي أسس شرعية ينبغي أن يتحلى بها التاجر، وأوجبت طلب الإذن من صاحب العمل التجاري، والالتزام بالأمانة، والابتعاد عن الغش؛ للحديث "من غشنا فليس منا"، وضرورة التحلي بالأخلاق الحميدة المنبثقة من العقيدة الإسلامية، وضرورة ارتباط النية في البيع، والنزاهة والصدق والوفاء بالعقود التجارية، والابتعاد عن اليمين المنفقة للسلعة، والالتزام بالشروط العقدية().
ولا شك أن نظرية العرض والطلب وعدم احتكار السلع أو الغش فيها أو غصبها أو سرقتها وتحري الجلب الصحيح والإنتاجية المباحة - تحقيقاً للمصلحة وإنعاشاً للسوق - من أولويات الأخلاق الفاضلة- للتاجر المسلم()، كما أن سد الذرائع لمنع الأضرار والمفاسد التجارية مطلب مهم في العملية التجارية، وهي قواعد معدودة في الشرع الحنيف، وقد ورد النهي عن الضرر بشتى صوره وتحريم استعماله - استعمالاً مباشراً أو نسبياً، - ومن صور الضرر: الاحتكار، أو الدخول إلى مواقع إلكترونية والنسخ منها بغير إذن()، أو البيع من دون موجب شرعي ويجب التحلي بالخلق النبيل، والالتزام بالعلامة التجارية الواضحة والاحتفاظ بملكيتها وتميزها عن المحل التجاري واستغلاله بوجه مشروع في التجارة الإلكترونية والبعد عن أساليب الحيل والخداع؛ وذلك حفاظاً على حقوق الأخوين من السرقات وإضاعة أموالهم بطرق غير مشروعة().
ومن واجبات التجارة الإلكترونية في الشريعة الإسلامية: ترك الشبهات، والإعلانات الكاذبة، والصدق، والتبكير في التجارة، بالإضافة إلى السماحة في المعاملة، والتحلي بمعالي الأخلاق، وترك المشاحنة والتضييق على الناس، ووجوب دفع الزكاة المشروعة في سائر الأعمال التجارية وعروضها().
وقد تجلت صور حماية الشريعة للمعاملات الإلكترونية بما نصت عليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية في فتواها رقم (18453) في 2/1/1417هـ التي بينت فيها عدم جواز نسخ البرامج الحاسوبية التي يمنع أصحابها نسخها إلا بإذنهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم"()، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امريء، مسلم إلا بطيبة عن نفسه"() وقوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلي مباح فهو أحق به"() سواء كان صاحب هذا البرنامج مسلماً أم كافراً غير حربي، لأن حق الكافر غير الحربي محترم كحق المسلم()، ومعاملاته الإلكترونية - على وفق ما يسمى في الوقت المعاصر بالحقوق المعنوية - مصونة شرعاً. وقُرر ما يأتي:
"أولاً: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار: هي حقوق خاصة لأصحابها، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معدودة؛ لتمول الناس لها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً، فلا يجوز الاعتداء عليها.
ثانياً: يجوز التصرف في الاسم التجاري، أو العنوان التجاري، أو العلامة التجارية، ونقل أي منها بعوض مالي، إذا انتفى الغرر والتدليس والغش، باحتساب أن ذلك أصبح حقاً مالياً.
ثالثاً: حقوق التأليف، والاختراع أو الابتكار مصونة شرعاً، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها. والله أعلم().
ومن صور حماية الشريعة الإسلامية للتجارة الإلكترونية: إيقاع عقوبة حد السرقة بشروطها، أو التعزيز لمن يشرع أو يرتكب اختلاس الأموال بالطريقة الإلكترونية، أو أخذ وسائل إلكترونية للغير - كالبطاقات الائتمانية - أو تزوير التوقيع الإلكتروني فيها. كل ذلك محرم في الشريعة الإسلامية() ويستحق مرتكبه العقاب الشرعي - كما تقرر سابقاً -؛ لحرمة الأموال شرعاً، وقد يصدر بحق من فعل ذلك بطريقة منظمة تنفيذ حد الحرابة وبخاصة جرائم الإنترنت: كالتخريب، أو إزالة للمواقع، أو السرقة والانتهاب، أو الإخافة، أو الترويع().
وفي ذلك بيان شاف لمدى تقديم معالجات الشريعة الإسلامية لكل النوازل المعاصرة، وإعطاء الحلول المناسبة على وفق كل عصر ومجتمع، وهي سمة اتسمت بها هذه الشريعة في مقاصدها الشرعية الهادفة.
المبحث الثاني
حماية التجارة الإلكترونية في النظم الوضعية
التجارة الإلكترونية بالمملكة العربية السعودية، مهمة جداً، وادراكاً من المسؤولين لأهمية هذه التقنية الحديثة، وأثرها الإيجابي على تطوير وتنمية الاقتصاد السعودي، فقد تم تشكيل لجنة دائمة برئاسة وزارة التجارة، مهمتها دراسة واقع التجارة الإلكترونية وإمكانات المملكة، ولا شك أن تطور الخدمات المصرفية وتقنيات الدفع التي قامت بها مؤسسة النقد العربي السعودي سيكون لها تأثير إيجابي على تفعيل الأمور وإنشاء البنية التحتية الملائمة، وفي نفس اتجاه تفعيل التجارة الإلكترونية أكدت بعض البنوك السعودية التزامها بتعويض العملاء الذين تتعرض حساباتهم للاختراق والتلاعب، ويتم إجراء عمليات مصرفية عن طريق مواقعها في الإنترنت.
وتأتي هذه الخطوة من البنوك السعودية في الوقت الذي يحجم فيه عدد من العملاء عن استعمال مواقع البنوك في الإنترنت، إذ لا يشكل عدد العملاء الذين يجرون عمليات مصرفية عن طريق الشبكة سوى 1 - 5 % بين كل المشتركين.
ويتوقع بعض المشتركين السعوديين أن تساهم الحماية الجيدة التي تضعها البنوك في مواقعها والتزامها بتحمل كامل ما يترتب من اختراق أو تلاعب بحسابات في رفع نسبة التعامل في التجارة الإلكترونية. وتهيّئ التجهيزات الأساسية للاتصالات - بالإضافة إلى التركيبة السكانية المؤهلة للتدريب في مجال المعلومات والاتصالات - أهم ما يمكن استثماره لتحقيق موقع ريادي للمملكة في مجال التجارة الإلكترونية().
وفي مجال حماية الحقوق المعنوية -كالتأليف أو الاسم التجاري أو العلامة التجارية ونحوها من المخالفات- نصت المادة الحادية والعشرون من نظام حماية حقوق المؤلف السعودي: على عدِّ التصرفات الآتية تعدياً على الحقوق التي يحميها النظام:
إزالة أي معلومة كتابية وإلكترونية قد تتسبب في إسقاط حقوق أصحاب المصنف.
إزالة وفك أي معلومة احترازية إلكترونية. تضمن استخدام النسخ الأصلية للمصنف مثل التشفير أو المعلومات المدونة بالليزر وغيره.
الاستخدام التجاري للمصنفات الفكرية بطرق التحايل.
الاحتفاظ بمصنفات غير أصلية في النشأة التجارية أو المستودع.
الاعتداء على أي حق من الحقوق المحمية.
ثم نصت العقوبات على الإنذار وغرامة تصل إلى مائتين وخمسين ألف ريال، أو إغلاق المحل التجاري أو السجن().
وفي مشروع نظام المبادلات() الإلكترونية والتجارة الإلكترونية نصت المادة (20) من مشروع النظام على أنه يعد مرتكباً جناية أي شخص يدخل عن عمد منظومة حاسوب أو جزءاً منها دون وجه حق، وذلك بالتعدي على إجراءات الأمن، من أجل ارتكاب عمل يعد جناية بحسب الأنظمة المرعية وبحسب ما تحدثه اللائحة التنفيذية.
وفي المادة (23) التجريم: إلحاق الضرر بالبيانات الحاسوبية بالمسح أو التحوير أو الكتمان.
وفي قرار مجلس الوزراء السعودي رقم 163 في 24/10/1417هـ
والذي ينص على إصدار الضوابط المنظمة لاستخدام شبكة الإنترنت والاشتراك فيها، ومنها:
الامتناع عن استخدام الشبكة لأغراض غير مشروعة، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: الرذيلة والقمار، أو القيام بأي نشاطات تخالف القيم الاجتماعية والثقافية والسياسية والإعلامية والاقتصادية والدينية للمملكة العربية السعودية.
الامتناع عن الدخول إلى حسابات الغير، أو محاولة استخدامها من دون تصريح.
الامتناع عن اشتراك الغير في حسابات الاستخدام، أو إطلاعه على الرقم السري للمستخدم().
وعلى مستوى دول العالم حيث سنت أنظمة حماية للتجارة الإلكترونية() في ماليزيا، وإصدار عقوبات رادعة للمخالفين، حيث صدر نظام عام 1997م ينص إلى أن الوصول غير الشرعي إلى الحاسب الآلي والدخول بنية التخريب أو التعديل غير المسموح به، تتراوح عقوبته بين غرامات مالية تصل إلى (150.000) دولار ماليزي، مع السجن مدة تقدر بعشر سنين وقد طبقة أنظمة() بريطانيا على جرائم إلكترونية عقوبة السجن مدة سنتين ضد أحد قراصنة الإنترنت والتجارة العالمية عندما أرسل فيروسات لحاسبات في العالم، واسمه (فالور)، حيث وزع فيروسات خلال الفترة من ديسمبر - 2001 م إلى يناير 2002م.
وفي مجال العقود التجارية الإلكترونية فتحت المحاكم التجارية في قانون المرافعات المصري م30/2 والنظام الفرنسي م46/2 حيث عدت عقود التجارة الإلكترونية عبر شبكة الإنترنت عقوداً بين حاضرين في الزمان وغائبين في المكان، والعبرة فيه بالقبول، ما لم يتفق طرفي العقد أو يوجد نص يقضي بغير ذلك م97، مدني مصري().
وعن حجية التوقيع الإلكتروني نص النظام الفرنسي والأمريكي والمصري على عده قوة بديلة تنوب عن التوقيع التقليدي، وأنه يدل على شخصية صاحبه()، وأن الدخول غير المشروع لمواقع التجارة الإلكترونية أو إفشاء البيانات الرسمية للتاجر، أو التزوير في مجال الائتمان الإلكتروني (بطاقات وأرقام) أو إعاقة الأعمال التجارية، والخيانة أو السرقة والقرصنة والنصب كلها تعد أعمالاً إجرامية جنائية يعاقب عليها القانون، والشرع الحنيف().
ويجب تحري الأمانة والدقة في المعاملات الإلكترونية وعدم الإخلال أو الغش في البيع بنظام بطاقات الدفع الإلكتروني وضرورة الاهتمام بالسرية التامة للتوقيع الإلكتروني وبخاصة مع ظهور التلاعب في بطاقات الائتمان عن طريق شبكة الإنترنت؛ لأن التجارة الإلكترونية عملية تعتمد على نظام معلومات متكامل من حيث الدعاية والتسويق والإعلان والمفاوضات وإبرام العقد وتنفيذه والحصول على المقابل المالي، وأن عملية الوفاء الإليكترونية إحدى حلقات التجارة عن بعد، أو التجارة الإليكترونية التي تعتمد على شبكة الإنترنت وتعدها عاملاً حاسماً في إتمام صفقاتها().
وهي صفة مهمة في أخلاقياتها وعدم الغش التجاري في السلع المعروضة، ووجوب وضوح البيانات الإعلانية للمستهلك، ولحمايته من وسائل الغش المعاصرة، وذلك بحفظ أسراره وخصوصياته، وتحديدها في عقده التجاري؛ حتى لا يكون ضحية للقرصنة أو السرقة من قبل الغير، وهذا ما نصت عليه الأنظمة الأوروبية لعام 1997م()، ونصت عليه المواد (38-42/الصادر في عام 2000م في المشرع التونسي ضمن حماية المعطيات الشخصية التي تعتمد على الإعلام الإليكتروني() الذي يسمى بالحق الإعلامي أو الحق الشخصي في الفقه المدني، أو الحق المعنوي في الفقه الإسلامي، وهو حق معترف به شرعاً وعرفاً ونظاماً().
وعن القواعد القانونية العقدية في مجال التجارة الإلكترونية التي وضعتها لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي في دورتها الرابعة والثلاثين خلال الفترة من 24-29 يونيو 1990م والخاصة بسندات الشحن الإلكترونية لتبادل المعطيات والمعلوماتية بين الأطراف الأعضاء في شبكة الإنترنت وإبرام عقد أو اتفاق بينهم عندما يرغبون في إبرام صفقات تجارية من خلال وسائل الإنترنت الإلكتروني، وهو ما تضمنته قوانين التعاقد عبر الإنترنت في فرنسا بدءاً من عام 1998م().
كما اهتم القانون النموذجي للأمم المتحدة حول التجارة الإلكترونية الصادر عام 1996م حول الاعتراف بالرسائل والمعطيات الإلكترونية والكتابة والتوقيع وأصل النسخة وإمكانات قبول المستند وقوته القاطعة في الإثبات وتبادل وسائل المعطيات الإلكترونية من حيث الراسل والمرسل إليه، والإيصال والاستلام، وحماية المستهلك الدولي والداخلي، من حيث السلع والخدمات والاستهلاك في شتى المجالات الإلكترونية().
ولا شك أن سن مثل تلك الأنظمة لحماية التجارة الإلكترونية - عبر الحاسوب - لها ثمارها الاقتصادية والاجتماعية، منها: إتمام المعاملات المالية بسرعة وإتقان، والحصول على المتطلبات بسرعة، وإمكان تسديد المديونات المالية بدقة، وانتعاش التجارة، وانخفاض التكلفة المالية وسهولة الانتقال في الأسواق العالمية وبكل ثقة وأمان وإمكان تداول النقود إلكترونياً، بعيداً عن الاختلاس، وهو ما يؤمنه التوقيع الإلكتروني والبطاقة الائتمانية، بالإضافة إلى الاطمئنان على الأرباح من تحقق وتطبيق أنظمة التجارة الإلكترونية وبحماية تامة().
وبمناقشة تلك الأنظمة نجد أنها لا تتعارض ومنهج الشريعة الإسلامية جلباً للنفع ودفعاً للضرر وتحقيقاً للمصالح المشروعة، وانتفاء للمفاسد. ولكن بضوابط وقواعد وأسس وفروع فقهية يحتاج إليها الناس في كل مكان وعصر والله أعلم.
الخاتمة
وفي ختام بحثي "أخلاقيات التجارة الإلكترونية في الفقه الإسلامي" تتجلى أثاره في أن مفهوم التجارة يدل على تقليب الأموال، وإدارتها لغرض الأرباح المشروعة، وأن التجارة الإلكترونية - بمفهومها المعاصر - تدخل في ذلك دخولاً أولياً مع إضافة تقنيات واتصالات ورسائل تؤدي إلى النتيجة الإيجابية، وأن الإسلام قد سبق الأنظمة الوضعية في اهتمامه بالتجارة، وفرّع لها أحكاماً شرعية، حتى أضحت وسيلة من وسائل الكسب المباح في الشرع الحنيف، ذلك أن التجارة الإلكترونية تعتمد على أسس ومصالح وقواعد إسلامية نظمها الإسلام على منهج رشيد، لا سيما وأن العقود مبنية على الرضا، - ومنها: عقود التجارات الإلكترونية في كل زمان ومكان ومجتمع ووسيلة - ولقد أباح الإسلام التجارة الإلكترونية في بلاد غير المسلمين ضمن علاقة المسلمين مع غيرهم بشروطها، كما أن الالتزام بأخلاقيات التاجر المسلم وضوابط المعاملات التجارية سمة مهمة في عرف التجارة الإلكترونية: من الصدق والأمانة وعدم الغش والتحلي بالأخلاق الفاضلة: مثل عدم الربا، أو الاحتكار، أو القمار، وغيرها، ولقد اقتضت حاجة الناس إلى هذا الموضوع إبرازه بصورة فقهية حتى تتضح معاملاتهم، في الخدمات الإلكترونية المقدمة، وإباحتها بضوابطها مثل البطاقات والاعتمادات المستندية ومقدمي الخدمة وغيرها.
وقد ظهرت أثار هذا البحث في تقديم خدمات الشبكة الإلكترونية، وأخذ العمولة المشروعة (الأجرة)، وأن البيع التجاري الإلكتروني جائز بشروطه بناء على العرف ووفق ما قعده الفقهاء - رحمهم الله - وإقرارات المجامع الفقهية المعاصرة، وكذلك جواز الإعلان التجاري الإلكتروني بشروطه، وأن التكييف الفقهي لبطاقات الائتمان قد أجازها في التعامل الإلكتروني في التجارة الإلكترونية على أنها وساطة تجارية بأجر أو وكالة أو كفالة بأجر مما اتضح في بحثه، سواء في التقعيد الذي ظهر لي عند الفقهاء، أو ما صدر من فتاوى وآراء لبعض المجامع والهيئات الفقهية المعاصرة، وأن الشريعة الإسلامية قد حمت هذا النوع من المعاملات (التجارة الإلكترونية) من حقوق الملكية الفكرية، وحماية المستهلك على وفق منهج إسلامي رصين، وسنّت العقوبات الرادعة لمن يتعدى عليها، وهو منهج سار عليه علماء النظم الوضعية مقتفين أثر الشريعة الإسلامية، في حين أن الالتزام بالأخلاق الإسلامية مطلب مهم في التجارة الإلكترونية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق